-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
وقفاتٌ عند مذكرات أحمد طالب الإبراهيمي

مواقف الاتزان والموضوعية ضد سياسة المواجهة والعنف (الجزء الأول)

بشير فريك
  • 804
  • 0
مواقف الاتزان والموضوعية ضد سياسة المواجهة والعنف (الجزء الأول)

تعرّفتُ على الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي سنة 1976 عندما كنت صحفيا بجريدة “النصر” بقسنطينة، إذ زار الولاية وكان وقتها وزيرا للإعلام والثقافة واجتمع بصحافي الشرق الجزائري، ومما استوقفني في كلمته وهو يتحدث عن الصحافة والإعلام قوله: “وزارة الإعلام والثقافة آخر من يتولى توجيه الإعلام، فهناك الرئاسة والحزب وأخيرا الوزارة”.
وأضاف: “لقد قلت لهم: إذا أردتم وزارة للإعلام والثقافة فاتركونا نعمل في هذا الاتجاه، أما إذا أردتموها وزارة للدعاية، فإننا لسنا من هواة الدعاية”.
ترسخت في ذاكرتي تلك الكلمات وكنا في أوج قوة نظام الحزب الواحد وعلى رأس الدولة بومدين وما أدراك ما بومدين. ومنذ ذلك الوقت تكوّنت لدي فكرة عن شخصية الدكتور طالب ومواقفه وقناعاته المبدئية وهو نجل البشير الإبراهيمي.
وبصدور مذكراته في أجزائها الثلاثة منذ أكثر من عشر سنوات اطلعتُ من خلالها على مساره من الطفولة إلى السجن الفرنسي وسجن الاستقلال ثم سنوات المسؤولية إلى جانب بومدين والشاذلي بن جديد إلى أن غادر المناصب الرسمية غداة أحداث أكتوبر عام 1988.
ورغم مغادرته المسؤولية، فإنه لم يستكن ولم ينزوِ على غرار الكثير من كبار المسؤولين، بل ظل مرابطا متخندقا إلى جانب القضايا الوطنية وفق قناعاته المبدئية في مرحلة مضطربة سياسيا متفجرة أمنيا لثلاثة عقود ابتداءً من أحداث 1988 وإلى غاية الحراك الشعبي عام 2019، وهي محور الجزء الرابع والأخير من مذكراته تحت عنوان “مذكرات جزائري.. مخاوف وآمال”.
اتخذ الإبراهيمي من اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني منبرا دوريا للتعبير عن آرائه ومواقفه في أحلك ظروف المحنة الوطنية، متمسكا بالصلح والمصالحة وتغليب المصلحة العليا للوطن من خلال الدعوة الدؤوبة للحوار ونبذ العنف، ساعيا إلى لمِّ شمل رفاق الجهاد والنضال من أجل التشاور وتوحيد المواقف والترفُّع عن الحزازات والأحقاد والضغائن الشخصية القديمة والمستجدة.
واستطاع أن يشكِّل لنفسه مرجعية التفّتْ حولها القوى الوطنية الأصيلة ودفعته إلى الترشح للرئاسيات سنة 1999، ليقود عملية الانسحاب الجماعي للمترشحين الستة أمام مؤشرات الحسم المسبق في النتيجة لصالح المترشح بوتفليقة “رحمه الله”، مواصلا نضاله وحضوره على الساحتين الوطنية والدولية لتدفعه قاعدته النضالية والإطارات إلى إنشاء حركة “وفاء” في عام 1999، بيد أن السلطة رفضت اعتماد حزبه لأسباب واهية تخوفا من اكتساحه الساحة السياسية والتغطية على الرئيس بوتفليقة الذي أرادها عهدة أبدية قبل أن يطيح به الحراك الشعبي الذي طالبت جماهيرُه بمرحلة انتقالية يقودها أحمد طالب الإبراهيمي.

  طلب اللواء نزار من الدكتور طالب السعي إلى التهدئة من خلال الاتصال بالشيخ سحنون لبذل المساعي لدى الأطراف الإسلامية، وهو ما قام به، مع طلبه من الجنرال نزار أن تكون محاكمة سجناء البليدة غير قاسية وخاصة تجنب أحكام الإعدام، وهو ما وعد به نزار ووفّى به.

وبصدور الجزء الرابع والأخير من مذكراته في بداية السنة الحالية (2023) تفاعلت الطبقة السياسة والإعلامية معها دراسة وتحليلا ونقدا، بين منوِّهٍ بها واعتبارها مرجعية صادقة محايدة نزيهة للتأريخ لسنوات الجنون والمحنة التي عاشتها البلاد منذ ثلاثة عقود، بينما ذهبت أصواتٌ نشاز للنقد وحتى التجريح من خلفيات أيديولوجية مشوِّهةً الكتاب ومحتواه الثري الغني بالأحداث والتواريخ والمواقف، مما يوحي بأن هؤلاء مكلفون بالنقد بالوكالة، في حين ذهب البعض الآخر إلى البحث عن عناصر الإثارة معبِّرين عن إحباطهم من خُلوِّ الكتاب من التصريحات المثيرة للجدل، ناسين أو متناسين أو لا يعرفون أن صاحب الكتاب ليس من هواة الإثارة والصخب، وكان دائما يتَّسم بالهدوء والموضوعية والرزانة في الطرح والتحليل وهو يعبِّر عن مواقف مبدئية ظلت تلازمه منذ نعومة أظافره تحت رعاية والده الشيخ البشير الإبراهيمي طيب الله ثراه.
وإذا سلّمنا أن مذكرات الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي بتناوله مرحلة حساسة ومؤلمة من مسار جزائر الاستقلال وتحديدا ميلاد التعددية التي كانت ولادة قيصرية وما واكبها من أحداث وآلام كانت نتائجها وخيمة في عدد الضحايا والخسائر المادية واهتزاز سمعة الجزائر محليا ودوليا، فإنها جاءت لتسد الفراغ وتضع الحقائق في نصابها بما تتسم به من غزارة الأحداث والتواريخ والمواقف بكل موضوعية ومصداقية، بعيدا عن الذاتية أو سعيا لتبرير قرارات ومواقف اتُّخذت في تلك الفترة وكانت نتائجها وبالا على الأمة والوطن، ومع ذلك يحاول الفاعلون آنذاك بسيل من الكتابات والتصريحات حسب مبدأ “التاريخ يكتبه المنتصرون” تمريرَ وتبرير فكرة أنهم “انتقدوا الجزائر”، ولكنّهم يحاولون عبثا لأنَّ الشعوب هي التي تكتب التاريخ بأقلام النزهاء الذين لم تُلطَّخ أياديهم بالمال الفاسد أو بدماء الأبرياء، ليبقى التاريخ هو الفيصل والحكم بين هؤلاء وأولئك.
وهكذا، فإن كانت مذكرات أحمد طالب في جزئها الرابع والأخير ذات الـ500 صفحة و100 عنوان وعنوان فرعي موزعة على 14 محورا و07 ملاحق، كل واحد منها يعدُم بمثابة وثيقة ودليل مادي على استمرارية النشاط النضالي للكاتب رغم مغادرته السلطة في نوفمبر 1988، فإننا لا نستطيع في هذا الحيِّز المساحي الإتيان على كل ما جاء في الكتاب، وعليه، فإننا سنكتفي بالمحاور التي نعدّها مهمة في هذا الكتاب التاريخي دون التوقف عند الجزئيات والهامشيات، داعين المهتمين بالشؤون السياسية والأحداث الوطنية إلى الإطلاع عليها من المصدر لإزالة بعض الضبابية حول ما عرفته بلادنا من أحداث طوال العقود الثلاثة الأخيرة، فالكتاب يغطي فترة من حكم الرئيس الشاذلي بن جديد ثم المجلس الأعلى للدولة لكل من المرحومين محمد بوضياف وعلي كافي ثم الرئيس اليامين زروال وصولا إلى سنوات الرئيس بوتفليقة وما واكبها من صخب واضطراب كان آخرها الحراك الشعبي 2019 الذي توقف الكاتب عند أحداثه وتداعياته إلى أن تم انتخاب الرئيس الحالي السيد عبد الجيد تبون الذي شرّفه بزيارته في منزله في الأيام الأولى لتوليه السلطة.

دعوة الشاذلي إلى الاستقالة
يؤكد الكاتب أنه كان متمسكا بنضاله في جبهة التحرير الوطني، رافضا أي تفكير في مغادرتها رغم الهجمات العدوانية ضدها حتى من المنتسبين لها غداة الإعلان عن التعددية “المبرمجة” من طرف السلطة، مؤكدا أن الحزب لم يكن يوما في السلطة بل استُعمل من طرف المتعاقبين عليها، مسجِّلا رفضه وبعض زملائه من قدماء الحزب للطريقة التي اعتُمدت في الإصلاحات من طرف رئيس الجمهورية والأمين العامّ لجبهة التحرير عبد الحميد مهري ورئيس الحكومة مولود حمروش، لأنهم اعتمدوا أسلوب الانفراد بالقوانين والإجراءات الإصلاحية دون المرور على الهياكل الحزبية، رغم الود الذي يبديه لهؤلاء.
ويسجّل الدكتور طالب أنه قد طلب من الرئيس الشاذلي في اجتماع اللجنة المركزية في سبتمبر 1990 تقديم استقالته من الحزب ليبقى رئيسَ كل الجزائريين ويخفف عبء السلطة عن الحزب، محللا أسباب هزيمة جبهة التحرير في محليات 12 جوان 1990 أمام جبهة الإنقاذ التي سطع نجمُها باستقطاب الرأي العامّ معتمدة على ضعف جبهة التحرير والتناقض بين خطاب إطاراتها وأفعالهم، مشيرا إلى تلك الزيارات التي كان يقوم بها عباسي مدني له ونقاشاته معه والتي تنسجم مع مبادئ جمعية العلماء، ولكنها عاجزة عن إعطاء تصوُّر واضح للبعد الاقتصادي لبرنامج جبهة الإنقاذ وكذلك في تعريف مفهوم المواطنة والعصرنة، ويعرج على عودة أحمد بن بلة من منفاه بتاريخ 21 سبتمبر 1990 وكان يعتقد أن الشعب سينصِّبه مكان الشاذلي، رافضا الالتقاء معه رغم محاولاته لأنه أساء لوالده الشيخ البشير الإبراهيمي.
وبعين الملاحِظ المهتم يؤرخ لبداية التعفن السياسي وتبعاته الأمنية منذ الإعلان عن التشريعيات الأولى في جوان 1991، ومغامرة جبهة الإنقاذ بإعلانها الإضراب العامّ واحتلالها الساحات العامة ثم تدخل قوات الدرك لإخلاء الأمكنة، وقبلها استقالة حكومة حمروش لتأتي بعدها حكومة غزالي وانطلاق المناوشات بين مناضلي “الفيس” وقوات الأمن في أحياء العاصمة وصولا إلى توقيف قادة جبهة الإنقاذ عباسي وبلحاج في جويلية 1991 وإحالتهم إلى السجن العسكري بالبليدة رفقة إطارات ومناضلين في الحزب، بتهم خطيرة في ظل حالة الحصار المعلَنة، مع تأجيل التشريعيات إلى نهاية 1991.

 ويلخص الإبراهيمي لقاءه مع وزير الدفاع عضو المجلس الأعلى للدولى خالد نزار بالقول “لقد دفنوا بوضياف وها هم يدفنون مشروع الحوار والمصالحة الذي دافعتُ عنه منذ شهور” وانتهى إلى القول “إذا كان موقف نزار هو موقف كل قيادة الجيش فإننا ذاهبون لا محالة إلى مواجهة عنيفة مع كثير من الدموع والدماء”، وهو ما حدث فعلا.

وأمام انتشار الجيش ودخوله معترك المواجهة السياسية والأمنية ضد فلول إسلاميي جبهة الإنقاذ، كان على الدكتور طالب أن يبدي موقفه في اجتماع اللجنة المركزية في 18 جويلية 1991 ليؤكد أنه يرفض خلق فجوة بين الجيش والشعب، ويرفض الزجَّ بالجيش في صراع ضد الحركة الإسلامية، وطالب بوضوح بإطلاق سرح المعتقلين السياسيين، ويسجِّل أن موقفه هذا هو أصلُ الخلاف مع قيادة الحزب والنافذين في الحكم رغم إلحاحه على حل الخلافات وفقا للأسس الديمقراطية، لينضمَّ إلى لجنة مساندة المعتقلين السياسيين التي أسسها العلَّامة الشيخ سحنون والتي اقترحت جملة من الخطوات العملية لتحقيق أهدافها إذ كان الشيخ يدعو السلطة لإطلاق سراح المعتقلين وإرساء المصالحة داعيا قادة “الفيس” إلى التعقُّل والتواضع والحوار مع الذين لا يشاطرونهم آراءهم.
بظهور نتائج تشريعيات 26 ديسمبر 1991، ظهرت ملامح الاحتقان السياسي في المجتمع بين رافض لها ومدافع عنها، وكان الرئيس الشاذلي من الرافضين لإلغائها، بينما تمسّكت القيادة العسكرية آنذاك ومن ورائها القوى الاستئصالية بضرورة وقف المسار الانتخابي، ليتم إجبار الرئيس الشاذلي على الاستقالة ودخول البلاد في منعرج خطير بإرادة متعمَّدة لاستحداث الفراغ الدستوري وتولي قيادة البلاد من خلال المجلس الأعلى للدولة “البدعة المستحدَثة” والإتيان بالمرحوم محمد بوضياف لتولي الرئاسة الجماعية، في حين ظلت السلطة الفعلية بيد وزير الدفاع خالد نزار عضو المجلس العلى للدولة.
كانت الأحداث متسارعة واضعة المجتمع أمام الأمر الواقع، ولأن الدكتور طالب من المتفاعلين مع المستجدات من خلال مواقف مبدئية، لم يصمت ولم يسلِّم بالأمر الواقع وتخندق مع ما يراه الحق وما يعتقد صادقا بأنه طريق الخلاص ألا وهو الحوار والمصالحة من دون إقصاء، وكان ذلك في عديد الخرجات الإعلامية الوطنية، بيد أن النداءات وصرخات التعقل والتهدئة لم تجد آذانا صاغية، وتفاقمت الأوضاع الأمنية وتعفَّنت الأجواء السياسية بهيمنة الجنرالين خالد نزار والعربي بلخير على مقاليد الحُكم في الدفاع والداخلية.

وجها لوجه مع نزار وزروال

يسجِّل الدكتور طالب أنه أمام خطورة الأحداث المؤلمة باغتيال الرئيس بوضياف في أواخر جوان 1992 ووفاءً لقناعاته بضرورة الحوار بين الفرقاء، استجاب لدعوة اللواء خالد نزار والتقاه بمقرِّ وزارة الدِّفاع الوطني ساردا ما جرى بينهما خلال ساعتين؛ إذ كان وزير الدفاع متمسكا بمواقفه بعدم الحوار مع الذين يأمرون بارتكاب أعمال العنف أو الذين قاموا به، مذكِّرا بما حدث في قمَّار بالوادي لكنه لم يرفض الحوار كمبدأ. وقبل ذلك حاول نزار إقناع الإبراهيمي بأن الشاذلي استقال من تلقاء نفسه وهو الطرح الذي رفضه أحمد طالب وقال له: “ربما يكون قد استقال، ولكنكم دفعتموه إلى هذا القرار”، ثم أخبره اللواء نزار بأنهم فكروا أولا في شخصية لاستخلاف الشاذلي ولكن المشاورات انتهت إلى اختيار بوضياف، إلا أن موقف الدكتور طالب كان واضحا إذ قال لمحدِّثه “إذا كان هناك حوارٌ بلا إقصاء فإني سأدعم وأصفق لمن يتولى القيادة، أما إذا دعوتموني لمواصلة سياسة المواجهة التي تنتهجونها فلا تعتمدوا عليّ ولا تنتظروا مني المشاركة”.
طلب اللواء نزار من الدكتور طالب السعي إلى التهدئة من خلال الاتصال بالشيخ سحنون لبذل المساعي لدى الأطراف الإسلامية، وهو ما قام به، مع طلبه من الجنرال نزار أن تكون محاكمة سجناء البليدة غير قاسية وخاصة تجنّب أحكام الإعدام، وهو ما وعد به نزار ووفّى به…
ويلخص الإبراهيمي لقاءه مع وزير الدفاع عضو المجلس الأعلى للدولة خالد نزار بالقول “لقد دفنوا بوضياف وها هم يدفنون مشروع الحوار والمصالحة الذي دافعتُ عنه منذ شهور” وانتهى إلى القول “إذا كان موقف نزار هو موقف كل قيادة الجيش فإننا ذاهبون لا محالة إلى مواجهة عنيفة مع كثير من الدموع والدماء”. وهو ما حدث فعلا خلال فترة الرئيس علي كافي الانتقالية التي يتوقف عندها كثيرا من خلال اقتراحه لحل توافقي ولجنة الحوار، وتهرُّب بوتفليقة ثم تعيين اليامين زروال رئيسا للدولة في 31 جانفي 1994، ثم يتناول أرضية سانت ايجيديو وردُّ السلطة عليها ثم المفاوضات بين السلطة وجبهة الإنقاذ، فسنوات الرعب وتصعيد العنف بعد العودة الملغمة للوضع الدستوري وانتهاء بالأزمة في هرم السلطة والإتيان بالرئيس بوتفليقة من خلال مسرحية الانتخابات المزوَّرة في أفريل 1999.
يُتبع

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!