موتوا بخيانتكم.. لن نعترف بإسرائيل!
برغم ما يمثله من طعنة غادرة في الظهر والصدر، فإنّ إعلان التطبيع بين الإمارات وتل أبيب لا يشكل في الواقع حدثا مهما على صعيد الصراع مع الكيان الصهيوني، حتى لو احتفى به المطبِّلون لحساباتٍ كثيرة، على اختلاف مواقعهم من واشنطن إلى القاهرة، مرورا بعواصم أخرى خليجية وعربيّة وأوروبية، فهو لن يغيِّر من إحداثيات المعادلة شيئا، لأنه مجرد انتقال من ممارسة العادة الدبلوماسية السريّة إلى الجهر بالفجور القومي في حق القضية الفلسطينية.
بل بالعكس، فإنَّ “اتفاق أبراهام” المشؤوم سيكون في صالح القضية المركزية بتمايز صفوف الأمة ومعرفة العدوّ من الصديق، بعيدا عن مجاملات السياسة وألاعيب الصالونات الإقليمية والدولية، ليقوّي من صُلب الثائرين الأحرار في أرض الرباط واعتمادهم على أنفسهم وعبقريّة شعبهم لدحر الاحتلال الغاصب وتحرير الوطن مهما طال زمن الإنعتاق، فللحرية الحمراء بابٌ بكل يدٍ مضرجة يُدقّ، على قول أمير الشعراء أحمد شوقي.
لقد فرح الخونة منْ بني جلدتنا الأقْربين، ممن باعوا ضميرهم للشيطان العالمي، بخروج الإمارات إلى العلن في علاقاتها مع الكيان الصهيوني، لاعتقادهم أنّ هذا الموقف النشاز سيرفع عنهم حرج المضاجعة مع العدوّ، أو يؤمِّن لهم عروشهم الهاوية من السقوط تحت إرادة الشعوب الأبيّة عاجلا أو آجلاً، ولكن هيهات هيهات، لأنّ الاصطفاف ضدّ مصالح الأمة ومقدَّساتها ومشاعرها لم يكن يومًا، عبر المكان والزمان، حاميًا للحكام، وإن أمدّ لهم ظاهريّا في سلطانهم الموهوم، بل هو عاقبة السوء التي تحيق بمكرهم وترمي بهم إلى مزابل التاريخ، تلعنهم الأجيال المتعاقبة، ويبقى خزيُهم الشنيع عظة لكلّ حرّ كريم.
في غضون هذه الهرولة “العبريّة” نحو تطبيع الذلّ والصَّغار، يحقّ لنا كجزائريين أن نفخر بعلاقتنا التاريخية، دولة وشعبًا، بقضية التحرُّر الفلسطيني، وأن نجعل من الموقف الرسمي تجاهها من عوامل التماسك الوطني وتقوية الجبهة الداخلية في التطلع نحو عهد جديد، لأنّ القرب والبعد من فلسطين، بما تمثله من قدسيّة دينية وقومية وإنسانيّة وأخلاقية، هو معيارٌ أساسي في تحديد الولاء والبراء من الأنظمة السياسية بالمنطقة.
نحمد الله على موقف الدولة الجزائرية من القضيّة الفلسطينية، ونشدّ على عُضد مؤسساتها السيادية، فهي لم تبدّل تبديلاً في هذا الاتجاه منذ الاستقلال إلى اليوم، مرورا بحرب النكسة واتفاقات “كامب ديفيد” و”أوسلو” و”أبراهام”، برغم ما مرّت به من محن شدادٍ، فهي حرّة تجوع ولا تأكل بثدييها.
ستبقى الجزائر، بإرادة نخبتها الوطنية في مختلف المواقع، سليلة الشهداء الأماجد والمجاهدين الأشاوس، وبرغبة شعبها الأبيّ العاشق للحريّة، والظّهير لكل مضطهَد مقهور، مع فلسطين ظالمة أو مظلومة.
ستبقى “مكة الثوار” قبلةً للأحرار في كل الظروف والأزمان، باذلةً ما في وُسعها من جهد عسكري ودبلوماسي وإعلامي وشعبي في نصرة القضايا العادلة، فكيف إن تعلّق الأمرُ بأمِّ القضايا فلسطين الروح والفداء، لأنّ ثورة نوفمبر المجيدة لم تكن مجرّد انتفاضة غضب لاستعادة الأرض، بل كانت إشعاعا حضاريّا لنصرة الإنسان، فكيف إن كان هو الأخ والشقيق في الدم والدين؟
أما المُنادون الغرباء بخذلان الجزائر لفلسطين، تحت مسميات عديدة، أكثرها بريقًا رواية “الواقعيّة” الممجوجة، فهم حالمون بالوهم، جاهلون بمعدن هذا الشعب الاستثنائي فعلاً، عندما يتعلق الموقف بالحرية والكرامة، فهو لن يتخلّى عنها تحت أيّ ذريعة، حتى لو ظلت وحيدة في مواجهة الكيان الإسرائيلي.
إنّ من يطمع، لجُبنٍ في قلبه أو خيانة تسري بعروقه، في زحزحة الموقف الجزائري من الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، ويتطلع واهمًا إلى يوم يعيش فيه “علاقات طبيعية” بين موطنُ الثورات البشريّة المخضّبة بالدماء الزاكيات، وكيان صهيوني مُعادٍ للإنسانية، هو ثاني اثنين لا ثالث لهما: إمّا أنه خرج، بيولوجيّا وثقافيّا وفكريّا، من نطفةٍ فرنسيّة من صُلب “لاكوست” و”دوغول”، أو أنه سفيهٌ مأجور يدّعي الحكمة والذكاء لإضفاء “وجهة النظر” على الخيانة العارية.
إذا كان هؤلاء الناعقون قد صنعوا مجدا أو ثروة أو شهرة بالإدمان على العُهر السياسي، حتّى صارت المصالح المتوهمة عندهم، وغير المعتبَرة شرعًا وعقلاً، هي الفيصل في تحديد مواقعهم ومواقفهم من الآخرين، فإنّ الجزائريين شرفاء من طينة الأطهار، لن يقبلوا يومًا الدنيّة في دينهم وأمّتهم وإنسانيتهم، وسيبقون على خطى الأسلاف البواسل منافحين بما أوتوا من إمكانٍ عن الأرض والعرض.