-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

موت الذاكرة أم نهاية التاريخ؟

موت الذاكرة أم نهاية التاريخ؟

أحدث الأمريكي فوكوياما زلزالا فكريا بكتابه المثير “نهاية التاريخ”، مثلما أحدثت هجمات 11 سبتمبر 2011 انقلابا في علاقة العالم بنفسه.. وفي الحالتين، تصنع أمريكا الاستثناء، بصناعة تاريخ لا يشبه غيره، يتأسس على القوة وامتهان ذاكرة الآخر.

 

إنّ  الجغرافيا ثابتة والتاريخ يتغيّر، وأمزجةُ الناس متقلبةٌ بفعل التسونامي الذي يتحرّك في جنبات الأرض، والإنسان يستفيق كل صباح على شكل مختلف للعالم، ولا أحد يعرف إلى أين تسير الأمور..

قد يُعرّف التاريخ بأنّه “عِلم الأشياء التي لا تتكرر” كما قال فاليري، ولكنّه يعني “الحصيلة الإجمالية لأشياء كان من الممكن تفاديها” كما قال أديناور. وقد يكون التاريخ “مجموعة من الأكاذيب لأحداث لم تحدث رواها أشخاص لم يعاصروها” كما جاء على لسان سانتيانا، وأحيانا لا يبدو التاريخ كتاريخ عندما نعيش فيه” مثلما قال غاردنر، أو ربّما التاريخ ليس أكثر من سيناريو سيء للغاية” كما يقول مايلر، غير أنّ هناك من يرى أنّ “الدّماء وحدها هي التي تحرك عجلات التاريخ” كما يقول موسوليني، وربّما يصدق مارك تواين عندما يقول “التاريخ قد لا يعيد نفسه.. ولكنه يتشابه كثيرا”.. إنّما المؤكّد أنّ “أيّ أحمق يستطيع صُنع التاريخ، لكن العباقرة فقط يستطيعون كتابته” كما قال أوسكار وايلد.. وهنا مربط الفرس.

إنّ شأن العرب مع التاريخ عظيم، يصنعونه ويصنعهم. يقرأونه صحيحا ويفهمونه مقلوبا. ينسونه، أو تمحوه أيديهم، فينغلقون في ماضيهم، ويغرقون في الحيرة. يصنعونه، لكنّهم لا يحسنون كتابته، إمّا خوفا منه، أو خوفا عليه، أو تواضعا أمامه، وبين الخوف منه وعليه، يموت التاريخ، ويلفه النسيان.

إننا اليوم أمام مشهد سرياليّ، تتمّ فيه عملية تجزيء للتاريخ وتفتيت للذاكرة، كلّ حدث يلغي ما قبله، وصار التأسيس لمرجعيات تاريخية مسألة اعتيادية، فأحداث أكتوبر 1988 في الجزائر تسعى، بعيدا عن نوايا بعض الناس، لحجب الثورة الجزائرية 1954، وثورة 25 يناير 2011 في مصر أزاحت ثورة يوليو 1952 التي أطفأت فوانيس ثورة عرابي، وعلى خطى الجزائريين والمصريين سار التونسيون والليبيون واليمنيون والسوريون.. والأوروبيون أيضا نسوا ثوراتهم، وصاروا يؤرّخون بسقوط جدار برلين 1989، والأمريكان أداورا ظهورهم للرابع من يوليو ليحلّ محلّه 11 سبتمبر 2001، ولم يبق من ثورة 1917 البلشفية سوى ما تركه غورباتشوف من بريسترويكا فكّكت الامبراطورية الحمراء..

إنّ التاريخ لا يصنعه الدّم وحده، إنّما هناك الإبداع والعقل والحضارة، وهو تراكم لنضال متواصل من أجل حريّة وكرامة وسعادة الإنسان. ولكنّه لا يعني الماضي وحده، بل الحاضر والمستقبل.

الأمريكان قرأوا جيّدا كاتبهم المتألق (الأخ الأكبر) جورج أورويل عندما قال “من يتحكم في الماضي يتحكم في المستقبل؛ ومن يتحكم في الحاضر يتحكم في الماضي” وفهموا أيضا أنّ حقيقة التاريخ كما يقول تشرشيل هي “عندما تكون الأمم قوية لا تكون عادلة، وعندما ترغب في أن تكون عادلة تكون قد فقدت قوتها”، فأعادوا صياغة علاقتهم بالتاريخ، وفككوا شفرة ذلك لصلوا إلى أنّ التاريخ تصنعه القوة”، لهذا فإنّ كلّ الفلسفة الأمريكية في حقبة خبراء هارفارد وجورج تاون، تتأسس على أنّ التاريخ ليس مفردة تلوكها ألسنة الأمم التي انتهت صلاحيتها في الواقع، بعد أن امتدّ إليها العجز والفشل والهوان، فالأمريكان يدركون أنهم كوكتيل من الهويّات التي شكّلت هويّة هجينة. ولا غرابة أن ينظر المارينز إلى متاحف العراق على أنّها من سقط المتاع، وأنّ الحضارة خرافةٌ تصدّقها شعوب لم تعد من هذا الزمن، فبعد انهيار أوروبّا بعد الحرب العالمية الثانية وبروز أمريكا والاتحاد السوفياتي كقوتين تلعبان الشطرنج بمنطق الكبار وتمارسان حربا باردة وقودها شعوبٌ منهوبة ومسلوبة ومنكوبة ومغلوبة.. ولكن هذا لم يستمر طويلا حين أدرك العم سام أنّ التوازن أيضا خرافة (..) وأنّ التاريخ لن يكتب بغير اليد الأمريكية. ففتّ في عضد الرّوس وأنهكهم في أفغانستان وقادهم إلى سباق تسلّح غير متكافئ، إلى أن رأى العالم انهيار جدار برلين، وإحالة حلف وارسو على المعاش، وتحويل الحلف الأطلسي إلى مهام خيرية (..) في كوسوفو وبغداد وقندهار وطرابلس. وفهم بوش الأب رسالة ريتشارد نيكسون 1990 في كتابه المثير “انتهزوا هذه الفرصة” الذي يقول فيه “سيعلم الجميع أنه بدون الولايات المتحدة الأمريكية لن يكون هناك سلام أو حرية في العالم أجمع، سواء في الماضي أو في الحاضر أو في المستقبل”، ليأتي بعده بيل كلينتون، ويعطي مفهوما آخر للتاريخ، في برنامجه الانتخابي المؤسس على كتابه “ما بين الأمل والتاريخ”، وهو قراءة واعية للتحديات التي تواجه أمريكا في القرن الحادي والعشرين، وينظر إلى أنّ التاريخ هو ما تصنعه أمريكا في حاضرها، بينما عجّلت هجمات 11 سبتمبر 2011 بإعطاء مفهوم جديد للتاريخ يعتمد على القوة والإكراه، مفاده إذا كانت هناك أممٌ منجذبة لماضيها القديم فلها أن تفعل ذلك، أما نحن فإننا سنصنع تاريخنا وتاريخ غيرنا، وتلك هي رؤية نيكسون، حيث أمريكا تضع بصمتها في أيّ وثيقة كانت.. والأمريكان هم الشاهد الأول عدلاً أو زورًا على أيّ واقعة أو حدث في العالم. لهذا فإنّ العولمة لم تعد إيديولوجيا أو منهج سيطرة على مقدّرات العالم، لكنها تاريخ آخر بأبجدية مختلفة.

يقول محمد حسنين هيكل “إنّ تاريخ كل أمة خط متصل. قد يصعد الخط أو يهبط، وقد يدور حول نفسه أو ينحني. لكنه لا ينقطع” وتلك حتميّة، تنظر من خلالها الشعوب إلى النصف الظاهر من جبل الجليد، وهو الحاضر، إنّما تسعى السياسة كثيرا إلى الاستثمار في الماضي، ليس لتفعيل الحاضر أو التطلّع إلى المستقبل، ولكن لمزيد من الانغلاق في “ما كان” لا فيما “سيكون”. وواقع الحال، أنّ الفشل في صناعة الحاضر، يدفع إلى الهروب نحو تاريخ لم تبق منه سوى شواهد ميتة، والالتفات إلى الوراء ينتهي حتما بالخروج من الزمن الحيّ.

إنّ الشارع العربيّ اليوم يسعى لكتابة تاريخ مختلف، بلغة مختلفة، وأدبيات مختلفة، لا يسقط ماضيه من ذاكرته، لكنّه يفكّر بمنطق الكاتب السعودي محمد حسن علوان الذي قال “لماذا لا يغيّرون شكل طغيانهم حتى يصبح تاريخنا أكثر تنوعاً على الأقل، ربما نمنح أحفادنا كتبَ تاريخ غير مملة. لهذا فإنّ تدوين وتوثيق هذا التحوّل التاريخي أمرٌ حيويّ وحتميّ، لأنّ إنعاش الذاكرة قتلٌ للنسيان.

في بلادي تنطفئ كلّ يوم شمعة، نضع فوق قبرها كثيرا من العراجين، ونذرف أنهارا من الدّموع، وندعو لها بالرحمة، وفي اليوم الموالي نسأل: هل كتب المرحوم شيئا؟. رحل بوضياف وبوالصّوف وبيطاط ودباغين وبن طوبال والحاج لخضر وبوبنيدر وبوشعيب ومساعدية ومهري وغيرهم، دون أن يتركوا شيئا.. فكلّما اتسع التاريخ ضاقت الذاكرة.

إن الكثير يموتون فتموت معهم أسرار كثيرة، لم تعد ملكا لهم بل للأجيال. ألم يقل الزعيم الصيني ماو تسي تونغ للمناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد: “إن لم تكتبي تاريخك اليوم فسيأتي بعدك من يكتب تاريخا آخر ويحرّف تاريخك!”..

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!