الرأي

موسكو تهزم باريس… رياضياتيًا!

إذا كانت باريس قد هزمت موسكو في رياضة القدم وكأس العالم قبل حوالي شهر، فإن موسكو أخذت بالثأر وهزمت باريس في مطلع هذا الشهر في رياضة العقل وكأسها العالمي، ذلك أن للرياضيات أيضا كأسا عالميا… يُقام محفلُه أيضا مرة كل 4 سنوات! وخلاله يتقرر من سيحتضن”العرس”القادم، وهذا العرس سيكون في مطلع أوت عام 2022، أما ما يقابل “فيفا” كرة القدم، والمشرف العام على هذه التظاهرة، فهو الاتحاد العالمي للرياضيات (IMU)).

احتضان مؤتمر سنة 2022!

يُقام المؤتمر العالمي للرياضيات مرة كل 4 سنوات ويلتقي أثناءه آلاف الباحثين من القارات الخمس، وما يميّزه أنه يدوم نحو 10 أيام وتُسلم خلاله أرقى الجوائز العالمية في الرياضيات، أشهرها ميدالية فيلدز، ومن المعلوم أن المؤتمر يُعقد منذ 120 سنة (منذ 1897). وقد نال شهرة عالمية لا نظير لها من بين التظاهرات العلمية، وكان من حظ البرازيل أنها نظمت مؤتمر 2018 الذي اختتم يوم 9 أوت في مدينة ريو دي جنيرو.
وفي هذا السياق، نذكّر أن فرنسا قرّرت الترشح عام 2014 لاحتضان مؤتمر 2022 في باريس، وتقدمت في نفس السنة بترشحها للاتحاد العالمي للرياضيات. وبعد انقضاء موعد الترشح عام 2016، تبيّن أن فرنسا وروسيا هما المترشحان الوحيدان، قدمت فرنسا في البداية ملفا ثريًا يتضمن بصفة خاصة رسالة من الرئيس فرانسوا هولاند آنذاك، يؤكد فيها دعم رئاسة الجمهورية القوي لهذه المبادرة، وموضحا مكانة فرنسا في هذا المجال ووقوفها الدائم إلى جانب التعاون العلمي.
وإلى جانب ذلك أنشأت فرنسا موقعا الكترونيا مليئا بالوثائق مخصصا لموضوع الترشح، وهو لازال مفتوحا إلى اليوم، ومن بين ما وضع فيه قائمة نحو 25 جمعية من جمعيات الرياضيات عبر العالم، تؤيد إقامة المؤتمر في باريس، إضافة إلى فيديوهات لكلمات مساندة ألقتها شخصيات سياسية وأكاديمية نالت جوائز عالمية، ولعل أبرزها كلمة صوتية باللغتين الإنجليزية والفرنسية للرئيس ماكرون، يرحب فيها بالمؤتمر، ويُعرب فيها عن تجنده لإنجاحه، ولم ينس الموقع وضع شهادات صوتية لباحثين وعلماء أجانب درسوا في فرنسا تدعو كلها إلى تنظيم المؤتمر في فرنسا.
وعلى الرغم من أن فرنسا معروفة بتفوّقها إذ صارت تُصنف في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في مجال البحث في الرياضيات بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، فهذا الجانب لم يقنع أصحاب القرار باختيار باريس لاحتضان مؤتمر 2022 بدل مدينة سانت بطرسبرغ العاصمة التاريخية لروسيا، وما يثبت أن الفرنسيين عاقدون العزم على أن يظلوا في المقدمة هو أنهم منذ سنوات وضعوا المخططات ليجعلوا من عاصمتهم باريس “العاصمة العالمية للرياضيات” بعد 10 سنوات من الآن، ولا شك أنهم يرون بأن تنظيم مثل هذا المؤتمر في باريس عام 2022 سيدعم هذا التوجّه.

الفوز الروسي الساحق

وما زاد من توتر باريس خلال السنة الماضية في إطار سعيها لاحتضان المؤتمر أنها لاحظت ميولا عالميا واضحا نحو خيار روسيا، واختيار إحدى المدينتين باريس أو سانت بطرسبرغ ليس بسيطا، فلكل منهما تاريخ مجيد ومؤهلات قوية: العراقة في المجال العلمي، والوسائل الحضرية، والفنادق المختلفة، والسياحة، ووجود علماء وباحثين بارزين حاليا في الهيئات الأكاديمية بالمدينتين، ولذلك كانت المنافسة على أشدها بين البلدين.
وكان الرأي الأولي للجنة الدولية صاحبة القرار، هو ضرورة العمل على دعم روسيا لتسترجع مكانتها في مجال الرياضيات لأنها فقدت الكثير من علمائها منذ التسعينيات حين رحلوا إلى بلدان أخرى بعد تفكك بلدهم. ولا شك أن إقامة مؤتمر كهذا في روسيا سيخدم هذا الجانب، وبطبيعة الحال، فهذا المبرر لم يرُق للفرنسيين لأنه يهدد مكانتهم العلمية.
وقد جرت العادة على انسحاب المترشح الأقل حظا من السباق قبل جلسة الجمعية العامة، لكن فرنسا أصرّت على إبقاء ترشحها وراحت تدعمه حتى آخر يوم من شهر جويلية الماضي! ولذا سقط قرار الجمعية العامة كالصاعقة على الفرنسيين إذ أسفر الانتخاب على 83 صوتا لصالح روسيا مقابل 63 لفرنسا! وما يظهر درجة خيبة أمل باريس أن الموقع الإلكتروني الذي كان يتابع يوميا أخبار المؤتمر ويلمع صورة باريس لم يعلن لحد الساعة عن هذه النتيجة، كما أن وسائل الإعلام الفرنسية تجاهلت الحديث عن هذا الموضوع.
والغريب أن الموقع الإلكتروني الذي خصصه الروس لترشحهم كان هزيلا، حيث اكتفى بالقليل من النصوص المشيّدة بالمدينة وإمكانياتها وببعض إعلانات التأييد المحلية، وهذا خلافا لما نجده في الموقع الفرنسي! فكيف تفوز روسيا على فرنسا؟ يبدو أن روسيا خططت لترشحها بصمت… وبحكمة لم تظهر للعلن إلا بعد التصويت.
ماذا ستوفره السلطات الروسية للمؤتمر بعد فوزها باحتضانه؟ تلتزم بتوفير دعم مالي يُقدّر بـ 9 ملايين دولار، وستتكفل بنفقات إقامة وسفر ألف مشارك من بلدان العالم الثالث، وستأخذ على عاتقها التكفل الكامل بـ 1300 طالب من جمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقا البعيدة عن روسيا، وإضافة إلى هذا، ستكون الإقامة في كل الأحياء الجامعية مجانية.
والأكثر من ذلك أن جميع المشاركين في المؤتمر سيُعْفَون من تأشيرة الدخول لروسيا وسيكون التنقل داخل المدينة عبر كل وسائل النقل العمومية مجانا لكل المشاركين خلال إقامة المؤتمر (10 أيام).
وفضلا عن المغريات المادية فإن روسيا أعلنت العام 2022 “السنة الروسية للرياضيات”، ومن بين ما ستقوم به خلال تلك السنة هو التوعية الجماهيرية عبر البلاد لمكانة الرياضيات بين العلوم وفي حياتنا اليومية. وفي هذا السياق، ستقوم بترجمة كمّا كبيرا من الأعمال العلمية في حقل الرياضيات من وإلى اللغة الروسية. وبهذه المناسبة، طلبت روسيا يد المساعدة من الجميع عبر العالم لإنجاح حملة الترجمة والمشاركة فيها.
وهكذا نرى أن السلطات الروسية تجتهد لإعادة مكانة البلاد ومدنها العريقة ليس بتنظيم كأس العالم لكرة القدم فحسب، بل بالانشغال بما يرفع شأن الأمم، وهو العلم وتوعية الجمهور العريض بأهميته، أما نحن فلم نستنفر قِوانا بعد… لا في هذا المجال ولا في ذاك!.

مقالات ذات صلة