-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مونديال قطر وكذبة التعايش!

مونديال قطر وكذبة التعايش!

لم نكن بحاجة إلى دلائل جديدة للوقوف على النفاق الغربي في علاقته بالآخر، خاصة إذا تعلق الأمر بالعالم الإسلامي، ولا إلى قرائن أخرى لإثبات أنّ دعاوى التعايش بين الأديان والثقافات والحضارات مجرد شعارات برّاقة، لا تعني لمجتمعات الحداثة الماديّة سوى فرض قيمها على البشرية باسم الإنسانيّة المفترى عليها.

لكنّ ما أبان عنه الغرب من عنصرية واستعلاء ورفض للمختلف، خلال البطولة الكروية لكأس العالم في قطر، قطع الشك باليقين لدى المنخدعين بكذبة القيم الإنسانيّة التي يريدون تحميلها وزر الشذوذ الحيواني والمفاهيم الجندريّة والفردانيّة المطلقة، لذلك شنّ هؤلاء حملة مقاطعة ضد تظاهرة الدوحة، حينما اكتشفوا أنها كيانٌ إسلامي بخصوصيات حضارية ودينية مختلفة، يرفض إباحة ما يناقض قيمه العليا من سلوكات، ويُلزم مقابل ذلك الزوّارَ بالاحترام الأخلاقي للفضاء العامّ المشترك.

ومن الصدف الفاضحة أنْ تزامن “مونديال” قطر مع استقبال خليجي لبابا الفاتيكان، حيث راح الضيف يلقنهم دروسًا بخصوص ضمان حقوق الإنسان الأساسية، بينما هلّلت نخب الهزيمة الفكرية إلى مبادئ التعايش بين الأديان والتسامح، في خطاب ظاهره محمود وباطنه مغالطات سافرة، لتكريس استعباد الشعوب المستضعَفة في الأرض.

لقد أسالت قضية حوار الأديان بحثًا عن تعايش مفقود، ولاحقًا انتقل المفهوم إلى الحضارات، مدادا كثيرا، دون أن تفضي إلى نتيجة موضوعية، لأن ما بُني على باطل فهو باطل، وما كان متجاوزا للواقع لمآرب سياسية وتخديريّة فلن يستقر حقيقة في الميدان.

ينبغي أن تصارح النخبُ الإسلامية والعربية نفسها وشعوبها والآخر كذلك، بخصوص فِرية التعايش الديني والحضاري، بعيدا عن خطابات المجاملة والسراب الساذج، وعوض تضييع المزيد من الوقت الثمين في حوار الطرشان، ينبغي توجيه الأولويات والطاقات لتكريس روح الاعتزاز الذاتي بكل مقومات الانتماء الحضاري واكتساب عوامل القوة في التدافع الدولي.

لا تسع المساحة للدخول في تفاصيل الموضوع، لكن من المهمّ التنبيه إلى أنّ مسألة حوار الأديان والحضارات تلفّها محاذير عقديّة ومنهجية وعمليّة، تجعلها أقرب إلى الترف الفكري والفخاخ المنصوبة لتمرير مشاريع الهيمنة على الأمة الإسلاميّة، لأنّ الغرب لا يؤمن سوى بنفسه وأحقيته الأبدية في السيطرة الاستغلالية على الإنسانية، حتّى مع وصول مدنيّته إلى نهاية الطريق وفسادها المادّي والأخلاقي والروحي.

ليكن واضحًا أن الحوار يستلزم مبدئيّا التنازلَ من الطرفين، بينما لا يقبل المسلمُ التخلّي عن ركائز عقيدته لإرضاء الملحد والكافر والمشرك والبوذي وسواهم، وما عجزت عن تحقيقه قوى الغرب عسكريّا تحت ذريعة مكافحة الإرهاب والإملاءات على الدول في المناهج التعليمية، من أجل تمييع روح العقيدة الإسلاميّة، يريدون الوصول إليه باسم حوار الأديان كأنّها سواء.

أمّا التعايش الذي ينادي به هؤلاء، فالأولى أن يتوجه خطابه إلى الطرف الأقوى وليس نحو الضعيف المقهور والمستعمَر، لأنّ من يرفض التعايش هو من يمارس العدوان والاستغلال في حق الآخرين باستعمال القوة الباطشة، بينما ينكر الغرب الإقرار بالحقيقة الناصعة، وهي أن الروح العدائية والكره المتنامي إزاءه من شعوب الجغرافيا الإسلامية لا يعود إطلاقا إلى كونه مسيحيا أو يهوديّا أو مختلفا عقديّا، بل لأنه ينهب منذ زمن الاستعمار المعاصر وإلى اليوم خيرات بلادها ويدعم نظم الفساد فيها ويقوّي شوكة الاحتلال الصهيوني المغروس في خصرها، ليمنح شرعية الحرب المقدسة للمليشيات المسلحة، فلا عجب إذا جنى أشواك غرسه الخبيث، بعيدا عن أي علاقة مزعومة بالدين الإسلامي وعدم قابلية المسلمين للتعايش.

إن ما يؤمن به الإسلام، وفق المرجعية القرآنية، هو التعارف الحضاري بين الشعوب والأمم والأديان، ليتعرّف الآخرُ على حقائقه وقيمه الإنسانية المثلى وأحكامه السمحة لمصلحة البشريّة كلها، من دون إكراه، فهو رسالة عالميّة، أمّا ما يريده الغرب فهو فرض قيمه الخاصة على كافة المجتمعات باختلاف مشاربها الدينية والثقافية بعنوان العولمة، إذ يعتقد واهمًا أنّ ما بلغه هو نهاية تطوُّر الفكر والتجربة البشريّـتين، وقد سخَّر كل الإمكانات الاقتصادية والتكنولوجية الرهيبة في اتجاه تنميط الثقافة بكل تجلياتها.

ولأنّ الغرب يدرك أن المسلمين لن يقبلوا بسهولة الذوبانَ في فلكه “الحداثي” المادي، فقد خطط لمدخل جديد، من باب “الديانة الإبراهيميّة”، وهو المفهوم الذي شاع خلال السنوات الأخيرة ليس فقط في الدوائر النخبوية والأكاديمية المختصة، بل صار مشروعًا ميدانيّا ترعاه عواصم خليجية، تنفيذا لخطة صهيو- أمريكية تشكلت معالمها منذ ثلاثة عقود بوزارة الخارجية الأمريكية، وخلفيتها أن الصراع الإسلامي الصهيوني لا يمكن حسمُه عسكريّا، طالما أن المسلمين يستلهمون روح المقاومة من عقيدة الرفض الإسلامية، رغم اختلال موازين القوى الماديّة، ما يستوجب نزع فتيل التمايز العقدي، بمفتريات المشترَك الديني الإبراهيمي.

لذلك ينبغي تصحيح المفاهيم بوضع الأمور في نصابها، إذ أن حوارات الأديان والثقافات والحضارات لا معنى لها عمليّا في ظل الغطرسة الغربيّة، والأوْلى التركيز على مبادئ وآليات التعارف والتدافع، وما تسمّى بحقوق الإنسان الكونيّة، كثيرٌ منها ليس إلا أعراضًا فتاكة لأمراض المجتمع الغربي، ولا يمكن للعاقل تعريضُ نفسه للعدوى.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!