الرأي

نرفض الدعم الإجتماعي!

قبل أيام قليلة، كشف وزير المالية عبد الرحمان راوية لأعضاء صندوق النقد الدولي بدبي، أن الدولة سترفع الدعم كليّة عن أسعار الوقود ومواد أخرى بداية من 2019، قبل أن يتدخل الوزير الأول نافيًا ما وصفه بـ”التأويل والتشويه” الذي طال تصريح وزيره للمالية!

المتعارف عليه في مثل هذه المواقف المتناقضة، أنّ الكلام في المحافل الأجنبية هو التزامٌ تعهّدي تجاه الشركاء، لا مناصّ من تجسيده، بينما تبقى تلك الخطابات المسوَّقة للشعب مجرّد شعارات للاستهلاك السياسي، تفرضها السياقات الاجتماعيّة ضمن الحملات الانتخابية وتهدئة الشارع لا أكثر.

وسواء صدق تصريح الوزير راوية أو بطُل، فإنّ المشكلة أعمق؛ إذ أنّ سياسة الدعم الاجتماعي التي هي مكسبٌ ثوري غداة الاستقلال، بحكم الظروف القاسية الموروثة عن دمار الاحتلال، تحوّلت منذ تدشين اقتصاد السوق، من مؤشر فشل للقائمين على شؤون الدولة في تحقيق الرفاه والحياة الكريمة إلى عنوان نجاح وهمي وهشّ، قائم على موارد الريع النفطي، تتباهى به السلطة في مواجهة خصومها السياسيين، بل تقدّمه على أنه مكرمة ومِنّة تعطف بها على الشعب!

بهذه المقاربة الخاطئة، أصبح الدعم الاجتماعي معنى مرادفا للذلّ والاستعباد وتكريس الزبائنيّة، وليس تطبيقا لنظرية إعادة التوزيع العادل للثروة بين فئات المجتمع، إذ صارت طوابير التدافع على الحليب وقفَّة رمضان ومحافظ الدخول المدرسي وسواها، وصمة عار تُشين جهود الدولة في التكفل بحاجيات مواطنيها، فضلا عن الإحساس المُخزي الذي تتركه في نفوس المستفيدين، لكن هناك تكريساً، عن عجز أو عمد، لهذا الوضع حتى يستمرّ، ربّما وفق معادلة خاطئة مفادها “جوّعهم يتبعوك”!

الأصل أن توفّر السياسات العمومية فرص الشغل الكريم والمسكن اللائق والتعليم النوعي والصحة الراقية، وغيرها من صور الرفاه الاجتماعي والتطور المدني، لكن حينما تخفق في ذلك، يلجأ الجهاز التنفيذي اضطراريّا إلى توسيع التحويلات الاجتماعيّة، لامتصاص ردود الفعل الناقمة، والتغطية على القصور في تسيير الدولة بمفهومها الوظيفي الحديث، وإلّا فقدت السلطة مقوِّمات وجودها، وصارت معرَّضة للسقوط بموجب ضرورة التغيير.

إذن، مهمة مؤسسات الدولة التنفيذية هي خلق الثروة وتوفير العمل وتحقيق القيمة المضافة في الاقتصاد، عبر الاستثمار الفعلي والسياسات الناجعة، وليس صرف الريع في النفقات العموميّة والدعم الاجتماعي، حتى أضحى مصدر الشرعية السياسية الأول للحكم، مقابل هدر فاحش للمال العام وتنامي خطير لمؤشِّرات الفساد!

وعليه، فإنّ الحقيقة التي يجب تجليتها، هو أنّ الدعم الاجتماعي سياسة في خدمة السلطة وليس الشعب، حتّى وإن بدا العكس ظاهريّا، لأنها تحكم باسم “الدعم” وتواجه معارضيها، وبه تستُر كل عوراتها منذ 56 سنة كاملة، بل تسوس بسوطه رعيتها التي غدت مرتهنة لعطفها وكرمها!

خيار الدعم الاجتماعي الذي يمثل الاستثناء والفشل في انجاز التنمية الحقيقية والاستجابة لتطلعات المواطنين في الحياة العزيزة بكل أبعادها ومعانيها، لا يُعقل أن نجعله قاعدة وحصيلة حساب لتعداد مكتسبات اجتماعيّة، هي في حكم الحقوق البديهية للإنسان وفق كل المواثيق. سندافع في كل الأحوال عن كافّة حقوق الفقراء والمحتاجين والفئات الضعيفة في المجتمع، لكن بالمقابل، نرفض سياسة الدعم الاجتماعي بمنطق الزبونيّة والشرعيّة وإدارة التنافس على السلطة، لأنّ ذلك يتنافى مع مبادئ الحرية والكرامة، ويشكل عقبة كؤوداً أمام مقتضيات التقدم والازدهار.

مقالات ذات صلة