الرأي

نظام “ل. م .د” والدكتوراه.. نظام كل المصائب

منذ نحو 10 سنوات فرضت الوزارة الوصية على الجامعات نظام الـ “ل.م.د.”.. وهي لم تكن مستعدة لذلك. سمعنا آنذاك أن وزير التعليم العالي كان قد صرح لمديري الجامعات ذات يوم أنهم أحرار في الانطلاق بهذا النظام متى توفرت لهم الظروف، تماما كما فعلت فرنسا في التسعينيات مع جامعاتها. لكنه سرعان ما تراجع، إثر اجتماع مضيّق ساخط مع كبار المسؤولين، وأمر هؤلاء المديرين بالبدء حالا في تنفيذ مشروع “ل.م.د.”

انطلاقة عرجاء

وهكذا سُطرت برامج على عجل تفتقد إلى العقلانية وبُعْدِ النظر، وبُنيت على فكرة خاطئة تقول: “النظام التعليمي الذي يصلح في فرنسا يصلح عندنا”. ذلك ما فعلت وزارة التربية في بداية القرن، وذاك ما فعلته وزارة التعليم العالي بعدها.

يقضي نظام “ل.م.د” في الواقع بأن يغادر معظم الطلبة الجامعة بعد نيلهم الـ”ل” من الـ”ل.م.د.” (أي ليسانس 3 سنوات)، ويتّجهون إلى سوق العمل. وتبقى منهم قلة قليلة تحضّر شهادة الماستر. وهذه الشهادة تنقسم إلى قسمين، قسم كبير يتجه نحو سوق العمل. وتبقى “كمشة” من الطلبة تحضّر الدكتوراه بمنحة معتبرة تجبر الطالب على قضاء كل وقته في الدراسة خلال 3 سنوات يحصل بعدها على شهادته.

المشكل عندنا أن سوق العمل كاسدة مقارنة بعدد الطلبة الحاصلين على الليسانس. وهو ما جعلهم يحتجون ويطالبون، على الأقل، بمتابعة دراستهم العليا رغم أن مستوى العموم منهم لا يسمح بذلك. تلك الضغوط جعلت الوزارة الوصية تستجيب وتسمح لأغلبهم بالتسجيل في الماستر، ويتخرّجون منه بمستوى ضعيف.. ولا يجدون وظيفة في السوق لشحّ مناصبه، إلا القليل منهم، ونلاحظ أن شغور المناصب في وزارة التربية خلال السنوات الأخيرة يقلل من حدة هذه الأزمة. فصار المطلب الآن فتح الدكتوراه لعددٍ أكبر من الطلبة.

وهنا يُطرح مشكل آخر: من يؤطّر هؤلاء؟ لا بد من دكاترة لتأطير الماستر  !   لكن طالب الدكتوراه، لكي يُؤذَن له بالمناقشة، لا بدّ أن ينشر مقالا في مجلة “ذات شهرة عالمية”! ولما كان المستوى العام متدنيًا، كما أسلفنا، صار من الصعب على الطالب نشر مثل هذه البحوث. ولذا يبدو أن الوزارة رأت بأنه ينبغي إزالة هذا القيد من شروط مناقشة الدكتوراه حتى تكون في متناول الجميع.

وهكذا سيكثر الدكاترة ويتزايد عدد المؤطرين ويُحل مشكل تأطير طلبة الماستر والدكتوراه! يبرر المسؤولون وذوو النوايا الخبيثة اللجوء إلى هذا الحل بالإشارة إلى أن شرط نشر مقال في مجلة لا نجده في البلدان الأخرى. والواقع، أن البلدان الأخرى لها خصوصياتها ولها ثقة مستحقة في لجانها العلمية وفي المشرفين على الرسائل الجامعية، ولذا لم تر داعيا لطلب نشر مقال من هذا القبيل لتأكيد قيمة الأطروحة.

 

وتكون الكارثة كارثتين

عندما نمعن النظر في وضع طلبة الدكتوراه عندنا، وعكس ما تفعل الكثير من البلدان، فهم لا يتلقّون دروسا خلال تكوينهم مدة 3 سنوات، بل يسجّلون في موضوع على أحد الأساتذة ويُتركون على حالهم! ذلك ما يدفع الكثير منهم إلى البحث عن نشاط يدرّ عليهم بعض المال غير مكتفين بالمنحة الدراسية. وهكذا ينشغلون عن الدراسة… وتكون الكارثة كارثتين: فلا هم درسوا ونالوا نصيباً وافراً من العلم، ولا هم دخلوا سوق العمل من بابه الواسع. ومن ثمّ ندرك الصعوبة في أن ينشر هؤلاء مقالاتٍ ذات قيمة علمية جادة، لاسيما إذا أهمل المشرف مهمته إزاء طلبته أو كان عاجزا عن أدائها… وما أكثر هؤلاء اليوم.

وبغضّ النظر عما يجري في الخارج بخصوص تحضير ومناقشة الدكتوراه، فعندنا: كان الوضع سيئا ولا يزال إلى اليوم… ونحن مُقْدمون -فيما يبدو- على التخلي على شرط نشر مقال في مجلة أكاديمية قبل المناقشة! فماذا سيكون وضعنا غدا؟ بالتأكيد فوضعنا سيسوء أكثر. ولذا نتساءل: كيف نقوم بتخريب بيوتنا بأيدينا، ويقوم الساسة بالإساءة إلى ما تبقى من شهاداتنا، بل بالقضاء عليها نهائيا؟

وعندما نسترجع التاريخ نجد أن هذا التوجّه كان يندرج ضمن خطة السلطات منذ القِدم، وهي خطة الهروب إلى الأمام: بدل أن نسعى إلى حل المشكل من جذوره، ونوجّه كل طالب إلى ما هو مؤهّل له، نمضي في القضاء على مستويات شهاداتنا الواحدة تلو الأخرى، دون حياء، حتى ندرك الحضيض.

 سُطرت برامج على عجل تفتقد إلى العقلانية وبُعْدِ النظر، وبُنيت على فكرة خاطئة تقول: “النظام التعليمي الذي يصلح في فرنسا يصلح عندنا”. ذلك ما فعلت وزارة التربية في بداية القرن، وذاك ما فعلته وزارة التعليم العالي بعدها.

قبل أواخر القرن الماضي كانت نسبة عدد الحاصلين على الباك نحو 25%، وكانوا يدخلون الجامعة بعددٍ معقول لا يُحدث تضخما ولا شرخا في مستوى التحصيل فينالون من العلم القسط الوافر. وشيئا فشيئا وصلنا إلى إصلاحات “التدريس بالكفاءات” (مرحلة بن بوزيد) في بداية هذا القرن فتحولت شهادة الباك إلى شهادة توضع في جيب الجميع، إلا من أبى من التلاميذ!

وتطبيقا للشعار الأجوف القائل بأن “لكل حاصل على الباك مقعداً في الجامعة” نزل هؤلاء التلاميذ ضيوفا على الجامعة وهي غير قادرة على أن توفر لهم ما يشتهون… ولا هم قادرون على أداء ما وجب عليهم. ولذا فهناك احتكاكٌ دائم بين الطالب والمسؤول داخل الحرم الجامعي.. والنتيجة أن “الحرم” لم يعد “حرمًا” والجامعة لم تعد جامعةً…

 

وماذا عن خيرة تلاميذنا وطلبتنا؟

وفي هذا الخضمّ نجد “منتوج” الجامعة الرديء يتولى زمام أمورها، في إداراتها وفي سلك تعليمها، فصار الجميع يشتكي من الجميع. ولكل من هؤلاء نصيبٌ من الحق والمسؤولية نتيجة سياسة الهروب إلى الأمام المنتهَجة من قبل السلطات العليا، فلا صرامة في التسيير ولا نزاهة وكفاءة في التكوين.

في البداية كان الحصول على الليسانس في نظام “ل.م.د.” يتطلب إعداد مذكرة. وفي السنوات الأخيرة صار تعداد طلبة الليسانس بمئات الآلاف حتى بات من غير الممكن المطالبة بهذه المذكرة، فقد شحّت المواضيع وشحّ المؤطرون مقارنة بعدد الطلبة. ولا شك أن السلطات ستتعامل بنفس الطريقة مع شهادة الماستر لأن وضعها الراهن سيئٌ للغاية بسبب كثرة العدد.

وما يندى له الجبين أيضا أننا لا نجد ضمن انشغالات وزارة التعليم العالي والسلطات العليا في البلاد قضية اسمها “الاهتمام بالنخبة”؛ فالالتفاتة الوحيدة نحو هؤلاء هي تلك المتمثلة في رحلة إلى تركيا للمتميزين في الباك. وما أسخفها من التفاتة! وكأن هذه السلطات تعتبر أنها أدت مهمتها كاملة إزاء المتفوقين عند نهاية هذه الرحلة.

إن من مآسي البلاد حقا أن تجهل أو تتجاهل عن قصد وجود هذه الفئة من التلاميذ وتتغاضى عن ترقية مواهبهم وتثمين مكانتهم، وكأن بروزها على الساحة يُزعج الساسة ومن والاهم. فلا اهتمام إلا بـ “المقعد البيداغوجي” لكل من يريد أن “يجلس” في قسم من الأقسام الدراسية، في حين نجد معظم البلدان التي تفكر في مستقبلها تخصّص النفيس لألمع الطلبة والتلاميذ كي يتولوا، إثر تخرّجهم، مقاليد تسيير البلاد في كل المجالات، وبذلك تنهض الأمم وتتقدم.

ولهذا السبب، فالاهتمام بالنخبة هو الشغل الشاغل لدى ساسة البلدان الساعية إلى التقدم والازدهار، في حين لا زلنا نحن نمضي وقتنا في الجدل حول عدد العهد الرئاسية ونِسب الذكور والإناث ورواتبهم في البرلمان بغرفتيه! ألم يقل المثل: “يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوّه”، وسأل سائل “وما يمكن أن يفعل الجاهل بنفسه”؟ قيل: “القضاء عليها لجهله بها”!

مقالات ذات صلة