-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

نظرة عابرة على هشاشة التكوين الجامعي

نظرة عابرة على هشاشة التكوين الجامعي
ح.م

إن أخطر وأقدس عملية تعرفها المؤسسات الجامعية في العالم وتشهد على فعالياتها المقدسة كل يوم أقسامُها ومدرجاتها وقاعاتها ومخابرها وفعالياتها النظرية والتطبيقية والعملية بشكل منتظم وبنّاءٍ ومدروسٍ.. هي عملية التكوين العلمي التخصصي العميق، والتأطير المعرفي المؤسس والهادف، والتدريب المنهجي والبحثي الأكاديمي المتميز، والتأهيل الاقتداري والموهبي والتمكني للنخبة من المصطفين المختارين من أبناء الأمة، والتي يجب أن تطبعها فوريا مُثُلُ التسامي الأخلاقي والقيمي من قبل القائمين عليها من عمال وإداريين وموظفين وأساتذة باحثين متمرسين في البحث العلمي على وجه الخصوص.

هذه النخبة هي عماد وأساس وجود هذه المؤسسات واستمرارها وبقائها، ولذا فهذه المؤسسة المتميزة مقصور العمل فيها فقط على ممارسة وإتقان هذه العملية الرباعية الأركان (علم، منهج، تدريب، أخلاق)، وإن لم يكن لها من وظيفة سواها لكفتها مؤونة وتقديرا واحتراما. هذا إذا اعتبرنا أن الاضطلاع ببقية الوظائف الأخرى من الباب الكمال العلمي والمهني، فهي إن اضطلعت بهذه المهمة خير اضطلاعٍ كفتها وأجزأتها عن التقصير في بقية المهام الأخرى، على اعتبار أن عملية إنتاج المعرفة بأشكالها المختلفة: (الصلبة: الكتب، والحية: الطلبة، والإلكترونية: الشبكية) تشفع لها من التقصير في ممارسة وظيفتها الاجتماعية الضرورية والسياسية اللازمة، فيبقى لفضيلة ومزية البحث العلمي وجاهة استقطابها ومحوريتها ومكانتها الاجتماعية أمام بقية الوظائف الأخرى.

هذه هي أوصاف وأهم وظائف الجامعة التي يدير مشاهدَها اليومية كل من: (الطالب، الأستاذ، الإدارة، العمال والموظفون) المصنفة عالميا، إن أدتْ مهامها العلمية والمعرفية والمنهجية والأخلاقية على أحسن وجه، فأحسنت اختيار الطالب المناسب لدراسة التخصص المناسب، ولم تتركه لمصادفات الحاسوب، وميوعة الموظفين المشرفين على تلك النقاط الحساسة، بحيث يُحوِّلُ المنحرف دينيا وأخلاقيا والمتبرِّجة والمنحلّ والمنحلّة لدراسة الشريعة الإسلامية على اعتبار معيار المعدل وكشف النقاط والرقعة الجغرافية كالقرب والبُعد وفراغ الأماكن وشغورها أو اكتظاظها.. وهذا أوّل عثرة ترتكبها الجهات الوصية في تعويق الجامعة من أن تقوم بوظيفتها التعليمية والتكوينية والتأطيرية خير قيام، وعلى هذا الأساس يجب أن يُوجَّه أصحاب أعلى الدرجات إلى دراسة العلوم الإسلامية، لا إلى كلية الطب، لأن طالب الطب هو موكول على حفظ جسد الإنسان فقط، على العكس من طالب الشريعة الموكول على حفظ دين وحياة وآخرة ومصير الإنسان، فمن كان متوكلا على هذه القضايا المصيرية في حياة الإنسان هو الأولى أن يتجه إلى دراسة الشريعة.

ويُضاف إلى تلك الخطيئة خطيئةُ سوء توزيع الأساتذة على تدريس المواد، فلا يراعى السن والخبرة والتجربة والتأليف والنباهة والمشاركات العلمية وكثرة الإنتاج العلمي.. ونحوه، بل تُضرب هذه المعايير عند رؤساء الأقسام –عادة- عرض الحائط لاعتبارات غير علمية وأخلاقية، وتُسلَّمَ دفعة سنة أولى وثانية ماستر لأردإ المدرِّسين من حديثي السن والتجربة والتخرج والعاطلين من التأليف، إن لم يكونوا من طلبة الدكتوراه الفاشلين أو طالبي الساعات الإضافية من الإضافيين.. فيُختار أستاذا لتدريس مقياس النقد الروائي من لم يقرأ رواية في حياته، أو تُمنح مادة فنيات التحرير الصحفي لأستاذ لم يكتب مقالا في جريدة في حياته، أو أن يضطلع بتدريس مادة الخطابة الأستاذاتُ اللائي لا علاقة لهن بفن الخطابة أصلا على اعتبار خلو البيئة العربية وعطلها الخطابي في جانب المرأة، أو أن تسند مادة المنهجية لأستاذ فاشل في المنهجية، لم يكتب بحثا متخصصا أو ورقة لملتقى دولي، أو أن تُمنح لأستاذ متعاون أو طالب دكتوراة فشل في إنجاز رسالته، أو أن تتكرر المادة على الطلاب كمادة منهجية وتقنيات وفنيات البحث وكتابة الرسائل العلمية الغائبة من حياة النخب الجامعية، فيملّها ويسأم من تكراراتها الطلاب، أو كأن يُدْرَسَ في السنة الأولى مدخلٌ إلى الإعلام الآلي، ثم يُفردُ له مقياسٌ نظري وحصة تطبيقية طيلة سداسي آخر ليُدْرَسَ مقياسٌ آخر تحت عنوان مجاور كفنّيات التحرير الإلكتروني، التي تختزلها مادة السنة الأولى.

أو أن يُختار لتدريس مادة فن الإنتاج أو الإخراج الإذاعي أو التلفزيوني لأستاذٍ لم يدخل في حياته قط استديو إذاعيا أو تلفزيونيا، ولم يُجرِ حوارا أو حديثا من هذا القبيل.. أو أن يُدرِّسَ مادة دينية محورية أستاذٌ فاسدُ التصور، مضطربُ الاعتقاد، أو قليل البضاعة والاطلاع والمعرفة، وما أكثر هذا الصنف في الجامعة اليوم؟ أو أن يُسند تدريس مادة تبليغية أو إيصالية أو متمِّمة أو مكمِّلة إلى أستاذ قديمةٌ وباليةٌ معارفه ومناهجه، تعود إلى مرحلة دراسته قبل عقدين أو ثلاثة عقود، لأنَّ هذا الصنف سرعان ما تبدو وتظهر عيوبه المعرفية والمنهجية القادحة في التخصُّص، وينكشف أمام نوعية خاصة من الطلبة، أو يبدو من خلال نوعية أسئلته الرديئة في الامتحانات العادية أو في المسابقات..

أو أن تُسنَد المواد الأساسية في التخصص بحكم العلاقات الصبيانية أو الزبونية أو الشللية أو التآمرية أو لحصار الزميل الآخر الكفء والمتميز كما هو –للأسف- واقع في بعض الكليات والأقسام لأساتذةٍ عديمي الضمير، وما أكثر سوادهم وغبارهم على الركح الجامعي البائس الحزين؟ أو ممن يكرهون هذه الوظيفة أصالة، وإنما دُفعوا إليها رغبة في رغيفها الكبير، فيشعر خلال الحصة وكأنه العصفور في القفص ينتظر لحظة الفرار من القسم.. أو أن تُسند بعض المواد المهمة والمفصلية في التخصص للأستاذات المريضات والمعلولات ممَّن دوامهن وحضورهن غياب وشهادات مرضية، وإن حضرن فعلى الطلاب تقديم الدرس لأبعاضهم.. أو أن تُسند بعض المواد المهمة لأستاذات أو أساتذة يخططون منذ بداية السداسي على استثمار جهود الطلبة في تحضير مفردات المقياس، فتقوم بتوزيع عناوين البرنامج على الطلاب مع قائمة المصادر والمراجع التي تبحث أو يبحث عنها لاستكمال مفردات مقياسه، وتطلب أو يطلب من مجموعة من الطلبة أو الطالبات أن يُحضّروا الدرس الأول، ومن المجموعة الثانية تحضير الدرس الثاني، وهكذا إلى نهاية السداسي، وتجلس هي في مؤخرة القسم وتتخلى عن وظيفتها المقدسة، وتترك الطالبات يتكلمن ويتحدثن ويمثلن الدور التعليمي.. وتتدخل هي -بعد غفوة وجدانية كانت تسرح فيها بسبحات عقلها السقراطي- بين الفينة والفينة لتقول كلمة أو كلمتين ترفع بهنّ العتب أمام الفوج الأول الذي حماها من المساءلة ومحاسبة الضمير، ومن تبعات العقاب المفقود في الجامعة أصلا. بل ثمة من لا يُقدِّم للطلبة مذكرة علمية أصلا، ويملأ الحصة بالغثاء والتكرار والعموميات والفراغ والحديث عن الوضع الجزائري والحَراك.. والأمثلة كثيرة تصدح بها ألسنة الطلبة والطالبات المتأسفين عن ما آل إليه وضع الأساتذة الجامعيين، وقد جمعت الكثير من الطرائف عن الأساتذة، منها أن الطلبة –كما حدثوني عن أستاذ تافه مازال يُدرِّس للأسف إلى اليوم في مقياسه ولا يقدِّم لهم شيئا- أنهم تواطئوا على أن يتأخروا عن موعد الحصة، وطلبوا من أصحابهم أن يصفوا مشهد الأستاذ التافه وهو يتململ ويتحرّق بؤسا وكمدا من غياب المجموعة المكلفة بإلقاء المحاضرة اليوم، ثم صبّ جام غضبه على المجموعة المكلفة، ووجد لنفسه مخرجا بعد حوار مضطرب ومثير مع طلبة القسم، وانشغل بالمناداة على أسماء الطلاب في المحاضرة ليشغل ما تبقى من الوقت الثمين الضائع، وصار يسأل كل طالب أو طالبة عن اسم عائلتها وأين تعيش ومن أي مكان هم، وهل أخوها المفتش الفلاني أو الأستاذ أو المدير الفلاني؟.. وأن قبيلتهم رحلت من المكان الفلاني إلى المكان الفلاني خلال الفترة الاستعمارية، وهم أقرباؤه ومن عشيرته.. ليشغل الوقت الثمين، الذي يتقاضى عليه ستا وعشرين مليونا في الشهر مع المردودية.. وبدأ يسأل أفرادَ المجموعة الثانية: هل قاموا بتحضير المحاضرة الموالية لينتقل إليها مكرها وأنه سيعاقبهم ويحرمهم من النقطة، ولكنهم أجابوه بمكر ودهاء: بأن موعدهم الأسبوع القادم، وبعد مضيّ أكثر من نصف ساعة يدخل أفراد المجموعة المعنية بإلقاء الدرس وهم يتصنّعون اللهاث وانقطاع النفس وجفاف الفم، ويعتذرون بأنهم انقطعت بهم الطريق واضطروا لكراء سيارة على حسابهم ولم يبق معهم من مصروف يعيدهم إلى بيوتهم، ويبتزوا الأستاذ ليعوِّضهم المبلغ الذي دفعوه للسائق، ويقبل أن يدفع لهم المبلغ، لأنهم أنقذوه من الموقف الحرج..

والطرائف في هذا المجال كثيرة ومؤلمة، ولم نكتب سوى النزر اليسير جدا من هذه المآسي العلمية والأخلاقية والتربوية والمهنية.. إلاّ بعد أن تردى الأمر واستفحل مع سياسة تقدير واحترام الفاسدين والمفسدين.. وسياسة اللاعقاب واللامراقبة واللامكافأة.. وترك الأمور تسير هكذا من غير رقيب أو حسيب.. بحيث إذا حصلتْ مشكلة –لا قدَّرَ الله- على الساعة الثالثة والنصف فلا تجد رئيس القسم أو نائبه متواجدين في الإدارة، حتى الكاتبات أو الموظفات.

ولعلني أضحِكُكم كثيرا وأُبكيكم كثيرا.. من سنيني السبع والعشرين في التدريس الجامعي، عندما أكشف لكم ما حدث مرة في مناقشة رسالة دكتوراة دولة، من أن أحد المناقشين وهو أستاذ محترم جدا دُعي إلى مناقشة تلك الرسالة نظرا لمكانته في عالم السمسرة المهرجانية الإشرافية والكسروية المناقشاتية.. فذهبتُ لأسلِّم عليه برفقة صديق لي على اعتبار قيمته ومكانته وسمعته في مكتب نائب العميد، وإذا به يُسلّم علينا بعجالة طالبا منا تركه يقرأ الرسالة لأنه لم يقرأها، فتركناه وتساءلنا: كيف كتب تقريرا بصلاحية الرسالة والمناقشة؟ وأثناء المناقشة فضّلَ أن يتنازل عن ترتيب اسمه في الصفحة الأولى من الرسالة، وآثر أن يكون آخر المناقشين لالتقاط فتات من هم أسوأ أو أرذل أو مثله في المهرجانية والاحتفالية.. فجلُّ رسائل الدكتوراة الموجودة –وقد اطلعتُ على المئات منها ودققتها- مليئة بالأخطاء الكثيرة التي لم تُصحَّح بعد، لأن المشرف لا يقرأ، ولجنة المناقشة لا تقرأ، فلم يعد أحدٌ يقرأ إلاّ فئة قليلة جدا من خيرة الأساتذة ممن يخشون فقط من قوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)..

وحضر مرة أستاذٌ عضو في لجنة مناقشة طالب، واكتشف فجأة لما جلس في مكتب نائب العميد أن الرسالة التي بحوزته مجرد حزمة أوراق بيضاء مضمومة بغلاف خارجي فقط، وليس بها سوى خمس ورقات مطبوعة في البداية فقط، ففيها صفحة البسملة والآية وصفحة الشكر والعرفان وصفحة الإهداء وصفحتان من المقدمة، والباقي أبيض اللون، وأنا أرمقه خلسة، فهبّ مسرعا دون أن يستأذن أحدا ليتناول رسالة بنّية اللون يزيّن بها نائبُ العميد خلفية مكتبه، وقال: هذه تشبهها في اللون وسأستعيرها لأداري بها سوأتي، وأخبر الحاضرين بالورطة التي وقع فيها، فعاتبوه أولا لماذا يكتب تقريرا عن رسالة لم يقرأها؟ ولأن الحال يشبه بعضه، اختاروا له طريقة التنازل عن اسمه والتقاط الفُتات، ولمَّا اتصل بصاحبها وهو أستاذ وطالب متأخر، وأخبره بالأمر، قال له: “إني كلفت ابني بالسهر لطباعة آخر النسخ، ويبدو أن ابني أرهقه الليل والسهر فضم حزمة الورق إلى تلك الصفحات الخمس وسار بها صباحا إلى المطبعة فضمّتها في ضميمة بيضاء”، ومرتْ الأمور بسلام لتواطؤ الجميع على الرذائل والفساد.

وبعد.. هذه عيِّنات وحكايات حقيقية مما يقع يوميا في مهازل الفراغ الجامعي المقدس، يجب أن أُصدِر فيها كتابا –لاحقا إن شاء الله- على شاكلة كتب التراث كـ(أخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي)، و(نوادر البخلاء للجاحظ) و(المستطرف من كل فن مستظرف للأبشيهي).. فربما حيَّ الخشب.. وبعد أن عييت ومللتُ من الكتابة من دون استجابةٍ من الجهات الوصية.. فاللهم اشهد أني بلَّغتْ..

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • الوطني الغيور

    كان التكوين الجامعي هشا قبل جائحة كفاد.. أما اليوم فإن الطالب يدرس 400 ساعة فقط في مرحلة اللسانس و الماستر وينال الشهادة.. وكان من قبلها يدرس 1080 ساعة.. ومزيدا من التقدم و التطور و الرقي يا جزائرنا وجامعتنا الحبيبة..

  • الناصح الأمين

    كان التكوين الجامعي هشا يوم كتابة المقال قبل ثلاث سنوات .. واليوم صار لاشيء بعد موجة كورونا..

  • احمد عيساوي

    استاذ قمة لم اعهد ان رايت تربوي بيداغوجي متقن لاساسيات التعليم وتاسيس الفكر بلبنة فكرة بل يضم جميع فنيات التألق والابداع اللغوي وبشرح اكثر من بسيط ليفهم الاخرس والابكم والمعتوه معضلات المسائل ويعطي للطالب مساحة ذات صفاء ذهني لكي لا يفكر بعيدا ولم اشرد لو لحظة كما رايت ذلك في حصص لمواد اخرى بل الموظوع او الخروج من موظوع الدرس كفيل لاعطاء المنحى الشمولي ليحتفظ الطالب للشريعة بجميع تفاصيل الدرس الذي يقدمه جازاه الله عنا خير اجر

  • احمد عيساوي

    استاذ قمة لم اعهد ان رايت تربوي بيداغوجي متقن لاساسيات التعليم وتاسيس الفكر بلبنة فكرة بل يضم جميع فنيات التألق والابداع اللغوي وبشرح اكثر من بسيط ليفهم الاخرس والابكم والمعتوه

  • الريح والراتب

    رواية تحكي حياة طالبة كانت تعشق صوت الريح وصفيرها بين الجدران عندما حطم الهرسك معهد الخياطة والتطريز وتركه اعمدة رمادية من الفحم