-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

نعيذكم بالله أن تتراجعوا عن ملاحقة فرنسا

نعيذكم بالله أن تتراجعوا عن ملاحقة فرنسا

لم يكن الخطاب الرسمي الجزائري تجاه المستعمِر القديم، بخصوص أعباء الذاكرة وشروط بناء الحاضر، أبرز وأقوى مما هو عليه اليوم في عهد الرئيس عبد المجيد تبون، ولا شك أنّ الموقف التاريخي والسياسي من فرنسا مما يتوحد حوله الشعبُ الجزائري بكل أطيافه إلا نطفة الطابور الخامس.

لقد جعل الرئيس تبون منذ البداية مسألة تسوية الذاكرة ضمن أولويات العلاقة مع باريس، وإذا كان ذلك يعبِّر عن روح وطنية وفيّة يلتزم بها الرجل لأمانة الشهداء والمجاهدين، فهو يعكس الرغبة المتقدمة في إحداث قطيعة عمليّة مع الهيمنة الفرنسية، وفقًا لإرادة حَراك 22 فبراير 2019.

وحسب ما تقتضيه أعراف التفاوض الدبلوماسي، أعطى الرئيس تبّون الفرصة للفرنسيين للتقدُّم خطوة نحو الأمام على درب التخلّص من ماضيهم الشنيع في بلادنا، وسايرهم إلى حين في مبادرة تعيين مفوّض عن الدولة الجزائرية لبحث قضايا الذاكرة المشترَكة دون شروط مسبقة سوى الاعتراف الكامل وتلبية مطالب الجزائر بشأن مخلفات الحقبة الاستعمارية.

لكن بمجرّد ما ظهر الالتفاف الغادر من إيمانويل ماكرون الذي آثر حسابات السباق الانتخابي بمغازلة اليمين المتطرف على التحلّي بروح المسؤولية التاريخية حتى نفض الرئيس تبون يديه من نظيره بكل جرأة، بل أدّت تصريحات الإليزي الحمقاء إلى سحب سفيرنا من باريس إلى إشعار آخر ومنع الطيران العسكري الفرنسي من التحليق فوق الأجواء الجزائرية، وما خفي سيكون أعظم.

وها هو رئيس الجزائر يشترط “الاحترام الكامل للدولة الجزائرية”، قبل الحديث عن أيّ عودةٍ لممثلها الدبلوماسي، مخاطبًا الفرنسيين بنبرة الأنفة والتحدي أن “ينسوا بأنّها كانت مستعمرة، فهي اليوم دولة قائمة بكل أركانها، بقوتها وجيشها واقتصادها وشعبها الأبيّ الذي لا يرضخ إلاّ لله عزّ وجل”.

ويذهب رئيس الجمهورية أبعد من ذلك، حين يرسم أمامهم طريق المستقبل، بالتشديد على أنّ “كرامة الجزائر لا تباع بمليارات الدولارات واليوروهات، وأنّ شهداءها المقدّر عددهم بـ5 ملايين و630 ألف شهيد يطالبوننا باستعادة حقوق لا يمكن محوُها بكلمة مجاملة”.

قد يبدو مثل هذا الكلام لبعض المنتقصين من المواقف الوطنية مجرد صراخ، لكنه في سياق التوتر القائم بين الجانبين يعبّر عن نفسية جزائرية أبيّة، تستلهم من تضحيات شعبها روح القوة والتحديّ في مواجهة العدو التقليدي ولا تقبل الدنيّة في الذود عن ميراث الثورة التحريرية الخالدة، لاسيما حين يؤكد مرارا  أن “لا تراخي أو تنازل عن ملفات التاريخ والذاكرة”.

ولعله غير مسبوق، ما وردَ شهر ماي الماضي، على لسان الناطق باسم الحكومة وقتها، في أن “الجزائر تتمسَّك باعتراف فرنسا بجرائمها في حق الشعب الجزائري وتقديم الاعتذار والتعويضات العادلة عنها”.

ولم تقتصر مقاربة الذاكرة على منازلة فرنسا إعلاميّا وسياسيّا، بل تجسدت عمليّا عبر مبادرات إستراتيجية وأخرى رمزية، وعلى رأسها إطلاق قناة تلفزيونية بمستوى عال وذات صدى دولي، لصيانة الذاكرة التاريخية من التزييف، وتوطيد علاقة الأجيال بماضي الآباء المجيد، فضلاً عن تعيين مستشار رئاسي مكلف بمتابعة الملف.

أما خسائر المتعاملين الفرنسيّين مؤخرا في الجزائر فهي معلومة، ولا تُخفى عن لبيب دوافعها السياسيّة، ضمن رؤية وطنية براغماتية، لقطع الامتيازات الحصريّة غير المشروعة وتنويع الشركاء الدوليين خدمة للاقتصاد الجزائري.

يبقى مطلوبا الآن الذهابُ أبعد في مسار التحرر الكامل من العقليّة الاستعماريّة، والتي لم تهضم بعد ستة عقود استقلال الجزائر، أو بالأحرى يشدها الحنين إلى الفردوس المفقود، بمزيد ممن الإجراءات السياديّة التي تمس مصالح فرنسا الاقتصادية وتحدّ من نفوذها الثقافي واللغوي، لأن ذلك وحده ما يجعلها تخضع في النهاية إلى منطق الربح والخسارة، وهو ما يترجم فعليّا سيادة الدولة الجزائريّة.

كما يقع على عاتق البرلمان الجزائري، إن كان حرّا وتمثيليّا، تنفيذُ مقترح قانون تجريم الاستعمار المؤجَّل منذ سنوات، إذ يبقى وصمة عار تجرُّؤُ فرنسا على تمجيد جرائمها الوحشية بإدّعاء تمدين شمال افريقيا، ثم ترسيم التزييف قانونيّا، بينما يجبن ضحاياها عن تجريم أفعالها ضد الإنسانيّة طيلة 132 سنة.

وفي سياق هذه المعركة الحضاريّة المفتوحة، أضحى المطلوب من الشعب الجزائري، بكل نخبه وقواه الحيّة، الالتفاف حول الإرادة السياسيّة القوية واللافتة مؤخرا في الدفاع عن ذاكرة تاريخنا ومصالح بلادنا والتأسيس لعلاقات جديدة، قوامها النديّة والسيادة مع فرنسا الاستعمارية، لأنّ تماسك الجبهة الداخلية في الاصطفاف حول الموقف الوطني هو الورقة الرابحة في مجابهة الغطرسة الاستعماريّة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!