-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ها قد رحلت يا عليّ.. فمن يكرم العلماء…؟!

ها قد رحلت يا عليّ.. فمن يكرم العلماء…؟!
أرشيف

قبل أسبوع واحد، زارنا الأستاذ الجليل ثامر لطرش بن الساسي البوسعادي في مقر جريدة الشروق اليومي بدار الصحافة بالقبة في العاصمة، وقد تعودنا منذ سنوات على زياراته الأخوية، حيث عرفناه وفيّا لإكراميات العلماء عبر مبادرات المجمّع التي انطلقت قبل 11 عاما.

لكن الزيارة الأخيرة لم تكن عادية بكلّ المقاييس، فالرجل لم يأت ضيفا ليحضر تكريما جديدا مثلما جرت العادة أو متفقدا لأحوال المؤسسة التي عشقها حتى النخاع، بل وفد إلينا بحصيلة حضارية، علمية، ثقافية وتاريخية، هي حصاد “الشروق” من الاحتفاء بأعلام الجزائر ورموزها الخالدين.

وجاء الباحث المهتم بالتاريخ ثامر لطرش من أقصى بوسعادة المنارة، يحمل إلينا ثمار شجرة مباركة غرسها المرحوم علي فضيل، يوم الثلاثاء 02 رمضان 1429 الموافق لـ02 سبتمبر 2008، بتدشين أول تكريم للعلامة لخضر الزاوي، أطال الله في عمره، حتّى أينعت اليوم وحان قطافها بتخليد 186 شخصيّة من أيقونات الجزائر، اجتهد المؤرخ لطرش في إعدادها وتنظيمها وترتيبها وتسفيرها، وبعد جهد علمي كبير في توثيق كافة المادة التي نشرتها “الشروق” في إطار تلك التكريمات، جمعها وأخرجها في مجلد ضخم من ثلاثة أجزاء، ليُهديه بتاريخ 15 أكتوبر الجاري إلى مصلحة المطبوعات الدورية بالمكتبة الوطنية، حتى يكون في متناول الباحثين والمؤرخين، وتلقى نظير ذلك رسالة شكر وتقدير من إدارتها على عمله القدير في خدمة التاريخ الوطني والثقافي للجزائر.

وحين استلمت ذلك العمل التوثيقي الرائع من صاحبه، تذكرت إلحاح المدير العام الأخ علي فضيل في آخر اجتماع بهيئة التحرير على ضرورة جمع تكريمات “الشروق” كاملة لإصدارها في كتاب واحد، ليس فقط تثمينا لجهد إعلامي ضخم أخذته المؤسسة على عاتقها، بل تعميما للفائدة المعرفيّة التي حواها، حتى تصل للأجيال القادمة، مثلما قال المرحوم.

فكّرنا نحن وشرعنا في إعداد خطة عمل لجمع ذلك الأرشيف المطلوب وكيف سنتعامل معه في غمرة المسؤوليات اليومية وزخم الأحداث العامة المتسارعة في البلد لنحقق رغبة المدير العام وأمانيه الصادقة في ترقية الاحتفاء بعلماء الجزائر، حتى ساق الله عز وجلّ إلينا جهد “الشروق” على مدار 11 عاما كاملا مرتبا ومنسّقا على طبق من ذهب، لأنّ المولى تبارك وتعالى يسخّر الصالحين من عباده لخدمة علمائه الأخيار من حيث لا يحتسبون.

ها هو مُكرم العلماء يرحل فجأة عن دنيا الناس الفانية بعد أيام قلائل من استكمال العمل المطلوب، الذي رعاه وسقاه وبناه وبذل فيه من وقته وماله ونفسه ومؤسسته، كأنّ القدر الإلهي حكم بالأجل المحتوم على بني آدم بنهاية تلك المهمة الحضارية النبيلة، التي نمت وترعرعت حتّى استوت على سوقها، سامقة شامخة يانعة، فهل قرّرت الرحيل أيها الأستاذ الكبير حين اطمأنّ قلبك على أنّ “الشروق” أضحت بيتا عامرا يشير إليه العلماء بالبنان؟ نم قرير العين أيها الكريم، فإنها ستظلّ قبلة وصوتا وإشعاعًا لهم ما أشرقت الشمس فوف الأرض.

على قدر الكرام تأتي المكارم

لقد أدركت أيها المعلم الملهم، بحبك للعلم والعلماء وتنشئتك الأسريّة الوطنيّة ومعدنك العائلي الأصيل وتربيتك الأخلاقيّة وتجربتك المهنيّة، أنّ الإعلام ليس فقط سبْقا خبريا ولا جريًا خلف الحوادث، ولا تحليلا مهما سما منطقه، ولا رأيا مهما ظهر حصيفا، ناهيك أن يكون تسابقا محموما على نقل الفجائع والغرائب والفضائح لأجل التجارة، فأسست لنفسك ولمؤسستك خطّا حضاريّا مميزا وفريدا، عنوانه الجزائر بهويتها، الجزائر بإسلامها وعروبتها وأمازيغيتها ورجالها وأعلامها عبر التاريخ، وبوصلته الأمّة بهمومها وآلامها وآمالها.

لذلك جعلت أيها المدير الخيّر تكريم العلماء، معنويا وماديا والتكفل بمنجزاتهم وأعمالهم الفكريّة، من أولويات “الشروق”، مع أنّ مثل هذه المبادرات تقع على عاتق المؤسسات المدنية والرسميّة أساسا، ولكنك تعلمت أن تُكبر بكبار الوطن وتجلّ الأجلاء وترفع قدرهم، دون إشارة من أحد، لأنك كبير وقدير تعرف منزلة هؤلاء، وتنافس غيرك على خدمتهم بإخلاص دون جزاء ولا شكور.

نشهد لك اليوم وقد رحلت إلى دار البقاء يا أخانا علي أنك قد كنت عينا ساهرة تحرص علماء الجزائر، ويدًا سخيّة تجود عليهم، فلم تبخل بالهدايا والعطايا لإكرامهم، وكنت توصي بهم خيرًا، وتنحني أمامهم بكل تواضع إجلالا وتقديرا لشأنهم.

علماء طواهم النسيان، ومشايخ اندثرت أسماؤهم إلا بين قلة من النخبة، ودعاة هاب الناس ذكرهم لزمن طويل، وشهداء غفل عنهم أقرب الأقربين، أنت يا علي وإخوانك الأوفياء في مؤسسة “الشروق” من نفض عنهم الغبار، فأحيي مناقبهم ورفع منازلهم وخلّد آثارهم إلى يوم الديّن، فكانت كلماتك الخالدة: “هؤلاء قدوتنا وطريقهم تنير دروب الأجيال، هؤلاء علماؤنا وبركاتنا وحقهم علينا التعريف بسيرهم واقتفاء مسيرتهم والوفاء لأمانتهم في حماية الدين وحفظ الوطن”.

لذا لم تنقطع مبادرات “الشروق” في أحلك الظروف، وظلّ اجتماع العلماء في دارها العامرة سنّةً حميدة، دأبوا عليها وألفوها، وقد صالت ربوع الجزائر وجالت في أرجائها شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، فكان لأعلامها الميامين في كل مكان نصيب من عبقها الزكيّ.

كانت تلك التكريمات الإعلاميّة هي الاحتفاء الظاهر بعلماء الجزائر، وما خفي قد يكون أكبر بكثير، فهو رجل كتوم حين يتعلق الأمر ببذل الخير والإحسان والوفاء، يقدّم في صمت ويحتفي بالرجال دون ضجيج، لأنها قضايا مبدئيّة عنده وليست بالضرورة مبادرات للأضواء، وإن كان ولابدّ من الإعلان عنها والإعلام بها فهو من باب التحفيز على الاقتداء والاحتفال برفعة المكرّمين، إعلاء لقدرهم أو ردّا لاعتبار مهدور.

ها قد رحلت اليوم في ريعان البذل وأوجّ العطاء يا عليّ! فمن يكرم علماءنا من بعدك؟ وإن أكرموهم فهل يكون يا ترى بمثل تكريمك، لأنك الأصل وهُم من ورائك الفرع.

رحلت يا عليّ وفي القائمة 186 مكرّم، تخليدهم سيكون صدقة جارية في ميزان أعمالك، ومعْلمًا منيرًا يدلّ على عبورك الطيب في رواق المميزين، الذين أبوْا العيش على هامش الحياة من دون أثر حسن.

شروقك شمسٌ يا علي.. فهل يُصبح الكون يومًا دون إشراق؟ لا أبدا.. قد يحجبها الكسوف مرة ومرّات ولكنها ستطلّ عليهم كل صباح من الشرق، فإن طلعت من الغرب كان ذلك إيذانا بقيام الساعة وقيامها نذير بسقوط الإعلام الحرّ، فلا تهتمّ يا عليّ ولا تجزع لقضاء وقدر… باقون على عهد “الشروق”، والعلماء دومًا مكرّمون في حضرتك وغيابك الأبديّ..عليك أزكى الرحمات.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!