-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هذا هو مالُك الحقيقيّ

سلطان بركاني
  • 1426
  • 2
هذا هو مالُك الحقيقيّ

توفّي رجل أعمال صينيّ مشهور، وترك أموالا طائلة في البنوك قدّرت بـ1,9 مليار دولار، وَرِثَتْها زوجتُه التي ما لبثت طويلا حتى تزوّجت سائقَ زوجها الذي فرح بهذه الثّروة الكبيرة التي آلت إليه، وقال: “كلّ الوقت الذي مضى، كنتُ أعتقد أنّني أعملُ لدى سيّدي، لكنّي الآن أدركتُ أنّ سيّدي كان يعمل لديّ”.. لقد كان رجل الأعمال مشغولا بجمع المال، ولم يكن يدور في خلده أنّه ربّما يموت فجأة ليترك ثمرة كدّه وتعبه لرجل يعمل مقابل أجرة متواضعة ولا يملك من أمره شيئا.

قصّة هذا الثريّ الصينيّ هي قصّة يعيشها كلّ عبد ألهاه جمع المال عن المنتهى والمآل، وأصبح لا همّ له إلا أن يتزوّد منه ويعدّده وينفخ به أرصدته، ويتباهى به أمام أقرانه وندمائه ((جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ))، لا يستمتع منه بقليل ولا كثير، بل ربّما يسرق منه المال عمره ويستغرق ليله ونهاره، يبيت على همّه ويصحو عليه ويقضي بياض نهاره وسواد ليله يتوجّس نقصَه وفناءه، لا ينفق منه إلا قليلا، ولا يرى فيه حقا لفقير أو مسكين. يتضجّر من رؤية المساكين والمتسوّلين، ويصمّ أذنيه عن سماع أنّات المحرومين.. الشّيطان يعده الفقر، ونفسه تخوّفه الإفلاس.. إذا دعي للمساهمة في أعمال الخير والبرّ تعلّل بكثرة المصاريف والحاجيات، وأبدى تبرّمه من تزايد أعداد المحتالين، وربّما تعلّل بفقدان الثّقة في القائمين على الأعمال الخيريّة وبكثرة من يطرق بابه ويطلب ماله!

وهكذا حتى يفجأه الموت، فيرحل فقيرا بعد أن عاش فقيرا، ويترك ماله لورثته من خلفه، لهُمْ غُنمه وعليه غرمه، يستمتعون به ويحاسب هو عليه، وهو المآل الذي حذّر منه الحبيب الشّفيق –عليه الصّلاة والسّلام- أمّته حينما سأل أصحابه يوما فقال: “أيّكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله؟” قالوا: يا رسول الله، ما منّا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: “فإنّ مالَه ما قَدّم، ومالَ وارثه ما أخَّر”.. المال الحقيقيّ للإنسان، هو المال الذي ينفقه في التّوسعة على نفسه وأهله بما أحلّ الله، وفي وجوه البرّ والخير يرجو أن يجد ثوابه في دار البقاء.

المال ليس مذموما في ذاته، بل هو زينة الحياة الدّنيا، كما قال المولى سبحانه: ((الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، والأصل فيه أن يكون وسيلة لسعادة العبد المؤمن في الدّنيا والآخرة، متى ما كان في يده ولم يدخل إلى قلبه؛ يبلغ به مآربه ويقضي حاجاته ويُسعد أبناءه ويصل رحمه، ويجبر كسر الفقراء والمحتاجين.. لكنّه يتحوّل إلى نقمة إذا سكن حبُّه القلب، ((وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا))، وأصبح جمعه وكنزُه غايةً وهدفا، لا يكتفي منه العبد ولا يرتوي، لو كان له منه وادٍ من ذهب لطلبا ثانيا، ساعات يومه كلّها لهمّ المال وحساباته. لا يكاد يجتمع مع أهله وأبنائه. يعادي ويخاصم ويقطع رحمه وجيرانه لأجل متاع زائل.. توضع صنوف الطّعام أمام ناظريه فلا يجد لذّة لقمة يمدّها إلى فمه، ويهيّأ له الفراش الوثير فلا يهنأ عليه بساعة من نوم.

لقد تحوّل المال في حياة بعض المسلمين، خاصّة أصحاب الحظوة والمناصب منهم، إلى إله يعبد من دون الله، تسلّط على قلوبهم وأعمى أبصارهم، وأنساهم أنفسهم، وأذهلهم عن الله والدّار الآخرة.. ذهب بريقه بأبصارهم وبصائرهم وسلب أرواحهم فقست قلوبهم وماتت، وظنّوا أنّهم مخلّدون في هذه الحياة الدّنيا؛ يسمعون عن الموت وأخباره فلا يتذكّرون، ويرون الجنائز تحمل فلا يعتبرون، بل إنّ أحدهم ربّما يدخل المقبرة والنّظارات السّوداء على عينيه وهاتفه ومفاتيح سيارته الفارهة في يديه، يطاول بأنفه عنان السّماء، لَكَأنّ تلك المقبرة لن تكون له سكنا، وكأنّ ذلك النّعش الذي مرّ من أمامه لن يكون له مركبا.. يتحسّس جيبه من حين إلى آخر، ويفكّر في ماله الذي في حسابه، ولا ينظر إلى ذلك الميّت أمامه كيف يوارى في حفرة ضيّقة وهو يلبس كفنا لا جيوب له، لم يأخذ معه ماله ولا مفاتيح سيارته، ولا صكّ حسابه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • الجزائر الحبيبة

    جزاك الله خيرا..

  • بلال

    الله يلطف، بارك الله لك على الموضوع