-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هذه مكانة الباحث الجاد في جامعاتنا الهزيلة

هذه مكانة الباحث الجاد في جامعاتنا الهزيلة
ح.م

في الوقت الذي تحلم وتتمنى فيه الوزارة الوصية بوضع مشروع مكون من 229 مادة وتسعة أبواب لإصلاح المنظومة الجامعية المهترئة منذ أربعة عقود. وذلك كدأبها وعادتها في التحليق والتهويم في المواسم ومهرجانات الأمنيات والأحلام والحملات الدعائية والانتخابية والتطاول نحو العُلا بأقدام علمية مشلولة وأطراف عملية ميتة ورصيد صفري في الإنتاج العلمي والبحثي الأصيل وبإدارة بيروقراطية متجبرة، وذلك عند كل تغيير أو تعيين حكومي جديد، تهدف من ورائه إلى لفت أنظار المهتمين بالشأن الجامعي ليطمئنوا إلى فقاعة صابون “إصلاح الجامعة” الذي يطبلون به كل عقد من الزمن المُخادع.

وقد شهدت بنفسي هذا التطبيل الدعائي منذ أول ندوة حضرتها حول إصلاح التعليم العالي بسيدي فرج شهر جوان سنة 1980م على عهد الوزير الراحل عبد الحق برارحي وعميد جامعتنا يومها عبد الحميد أبركان، والتي كنت فيها عضوا في لجنة التعريب واللغة العربية التي مازالت تراوح –للأسف- مكانها منذ أربعة عقود خلت، لأن لغة الحكومة ومراسلاتها الرسمية ولغة وزير القطاع الأولى ومراسلات الوزارة للجامعات هي اللغة الفرنسية، وهي اللغة التي يُخاطِب بها أهل القطاع غيرَهم من المستخدمين، ولَكَمْ شهدت في حياتي الجامعية من ندوة تليها ندوة ومشروع إصلاح يليه مشروع.. إلى يوم الناس هذا.. والجامعة للأسف لم تبق على حالها، وليتها بقيت على حالها صانعة للرجال أو مانحة للخبرة والشهادات، بل تردَّت إلى كونها مجرد مؤسسة تمنح الأوراق التي لا يقابلها علمٌ ولا خبرة ولا معرفة ولا خُلق قويم، وذلك من خلال المستوى المتدني جدا الذي عليه طلبتنا وخريجينا.

ولعلني أكشف لكم عن سبب عدم تفاؤلي ويأسي المطلق من كل مشاريع الوزارة الإصلاحية والترقيعية، هو معايشتي للواقع الجامعي عن كثب، ولتدريسي في عديد الجامعات خلال السنوات الماضية، ولاتصالاتي الواسعة بشبكة الباحثين الجادّين والممتازين في مختلف جامعات القطر وخارجه، ولصلتي الوثيقة بالبحث العلمي ووفرة إنتاجي منه خارج الجزائر، وصلتي الدائمة بعالم الكتابة والنشر والتحكيم الحقيقي داخل وخارج الوطن.. ومن هنا فأنا أتذكّر جيدا شكل وحالة الساعات والأيام الأولى لطرح الوزارة مشاريعها الإصلاحية، التي تُصوَّرُ على أنها الانطلاقة الحقيقية والفعلية لنهضة الجامعة من كبوتها، وأنها عندما تودِّع ذلك النظام الفائت ستنتقل نحو الحداثة والنهضة والتطوُّر، وفي كل مرة للأسف سرعان ما نكتشف كم كنا أغبياء ومغفلين عندما صدقنا هذه الفقاعات الميتة بَلْهَ القاتلة والمميتة على حد قول مالك بن نبي الذي قهرتموه ورميتم بمشروعه وراء ظهوركم.. فرمتكم سنن الله التي لا ترحم ولا تحابي ولا تجامل في ذيل الأمم.

ولعلني أضرب لكم مثلين يشخِّصان لكم هذه الحالة المتردية التي عليها الجامعة الجزائرية اليوم والمشابهة لسابقاتها الفائتة، والتي لن تعرف النهضة والرقي والتطوّر في رعاية وهيمنة وإدارة مثل هؤلاء الفاشلين الخالين من البحث العلمي، والذين لم يسبق لهم أن أنتجوا المعارف والعلوم (الرجاء انظروا في موجز السيرة الذاتية لكل واحدٍ من هؤلاء الفاشلين في مواقع الوزارة أو الجامعة)..

والمثلان هما لنموذجين ولصديقين عزيزين وباحثين محترمين ومميزين في عالم البحث والنشر والكتابة العالمي.. لنرى العكس والنقيض يُطبَّق على أرض الواقع الجامعي الهزيل من قبل لفيف الفاشلين والمعرقلين الذين تربَّعوا على منافس ومشاهد ومناشط المشهد الجامعي الحزين.. وبهؤلاء المتربِّعين على مسيرة المشهد الجامعي –من أصحاب مشروع نهضة الجامعة للأسف- ستعرف الجامعة النهضة كما عرفتها معهم أيضا في العقود السابقة. وفي ظل هؤلاء ذاق صديقاي المميزان كل ألوان القهر والعذاب والإهانة والتعسف والحرمان حتى من حقوقهما الأدبية والعلمية والأكاديمية في تلقيهما سيول المراسلات الإدارية العارية عن كل أدبيات المراسلة الرسمية التي تفرضها قوانين الإدارة الجزائرية الصارمة، فضلا عن حرمانهما من المراسلة بأسمائهما أو بدرجتهما العلمية التي حصَّلا عليها بآلاف الأوراق البحثية في النشر الخارجي.. لا كبقية الباحثين الذين ترقوا إلى درجة بروفيسور بعلبة أرشيف شبه فارغة، وقد رأيتها بنفسي يوم استعادتي لعلبتي بعد ترقيتي قبل عقدٍ من الآن.

وصَدِيقَاي هذان، أحدهما: عالمٌ متخصص في علوم الرياضيات وفروعها ومشتقاتها، ما زال لم يبلغ الأربعين من العمر، ويتقن أربع لغات عالمية وهي: الفرنسية، الإنجليزية، الألمانية، والإيطالية، فضلا عن تحكّمه باللغة العربية الفصحى لأنه نشأ نشأة دينية سلفية وتعلَّم من مشايخه أدب الطلب والحديث باللغة العربية الفصحى، وله أكثر من مائة مؤلف عالمي في الرياضيات، ومائة بحث ومنشور عالمي، وأكثر من مائة ملتقى في علوم الرياضيات، فضلا عن الإشرافات والمناقشات الحقيقية لا الشكلية التي  نعرفها عن هؤلاء الفاشلين والفاشلات..

ولقد صُنِّفَ صديقي هذا العام ضمن قائمة 2% من أفضل الباحثين في العالم من حيث عدد الأبحاث المنشورة، وعدد الاستشهادات المستشهدة بأبحاثهم، وذلك وفق قائمة الأبحاث وتقرير جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة الأمريكية، وجاء اسمه ضمن 30 باحثا جزائريا، وقد تقدَّم مخبر الرياضيات الذي ينتمي إليه بأحرِّ التهاني له، وقد أرسله لي بدوره لأنه تتلمذ على يدي في العلوم الشرعية يوما وقرأ كتبي.

ولقد أذاقه الهوانَ تلامذتُه الذين صاروا رؤساء أقسام عليه، كما أذاقه مديرَا جامعةٍ رحل أوَّلُهما غير مأسوف عليه، ومدير جامعة قادم أذاقه كل أصناف الذل والهوان، وقد روى لي قصته، وطلب مني تبليغها للرأي العام وللوزارة إن أرادت أن تصحح المسار الخاطئ، وهي فرصة سانحة لإبعاد كل هؤلاء الفاشلين عن إدارة المشهد الجامعي النبيل.

وثانيهما: رجل جاوز الستين من العمر وله تجربة ثرية ومتنوعة دامت أربعة عقود في التربية والتعليم والدعوة والكتابة والنشر والتأليف.. كتب أكثر من مائة وخمسين بحثا، وألَّف ثلاثين كتابا، وحضر أكثر من مائتي ملتقى وطني ودولي خارج الجزائر، وكتب أكثر من ألفي مقال في أكثر من خمسين عنوانا داخل الجزائر وخارجها.. وكان ضيفا على الكثير من الرؤساء والملوك في الكثير من الملتقيات والمناسبات العالمية، وقد تعرَّض المسكين وما زال يتعرَّض لرذالة العمداء ورؤساء الأقسام، كما تعرَّض سابقا لإهانة مدير الجامعة السابق.. ومن أغرب ما تعرَّض له من قبل عميد ومدير سابق أنهما حوَّلاه إلى مجلس أخلاقيات المهنة لأنه تقدم بطلب كتابي رسمي لمدير الجامعة يبيِّن له كيفية حرمانه من حقوقه من قبل العميد، فما كان منه عوض أن يجيبه إجابة إدارية، إلاّ أن حوَّله إلى مجلس أخلاقيات المهنة؟! وطلب مني المسكين أن أعرض لمأساته مع هؤلاء القوم الذين تريدون تطوير الجامعة بهم.

ولم يكن صديقي الأول يشتكي فقط من الإهانات المتعمَّدة والحرمان من الحقوق المادية والمعنوية والأدبية كالحق في مراسلته باسمه ولقبه ودرجته العلمية، فقد كان يراسله رئيس القسم من دون موضوع ومن دون متن رسالة، وكأنما يراسل مجهولا، في الوقت الذي لا يجرؤ هذا العميد أو رئيس القسم البتة على أن يخاطب أحد أفراد المنظمات الطلابية دون عبارات التزلُّف والاحترام والتقدير، لخوفهم من مكرهم وقدرتهم على تحريض الطلاب. وهؤلاء الإداريون كما أخبرني صديقاي يمنحون الطلبة نقاطا عالية لكي يضمنوا سكوتهم.. فضلا على تستُّرهم على غيابات الكثير من الأستاذات والأساتذة الفاشلين.. بل كان المسكين يُعطَى أسوأ البرامج، ويُعطَى مادة يوم الخميس ليلا، ثم يُطلَب منه أن يُدرِّسها صباح السبت.

وقد أهانه مدير الجامعة السابق عندما تقدم بطلب للانتقال إلى الجامعة التي بها سكناه، وبعد أن استوفى كل الشروط القانونية من آجال ومدد.. ونحوها..  فلم يردّ على طلبه حتى فرَّ المدير السابق خارج الوطن بعد طرده من منصبه، حاملا معه قول الشاعر:

ذهب الحمار بأمّ عمر ** فلا رجعت ولا رجع الحمار

واستبشر صديقي الباحث المسكين بمجيء مدير جديد، لكنه لم يستقبله طيلة ستة أشهر، وبعد لأيٍ وجهد وطول انتظار استقبله في مكتبه لمدة دقيقة واحدة من دون أن يأذن له بالجلوس، وقال له باستعلاءٍ واستكبار: من تكون أنت؟ وماذا تريد؟ ثم طلب منه الخروج دون أن يعرف من هو ولا درجته العلمية ولا مستواه، لولا أن هدى الله رئيس الجامعة المستقبِلة فاتصل مرارا وطالب بنقل صديقي الباحث إليه، حتى تعطّف عليه ومنحه رخصة الانتقال، هروبا من ذل الإداريين الذين ستطوّر بهم الجامعة يا وزير التعليم العالي والبحث العلمي الغائب..  (موجز السيرة الذاتية + التهنئة بالترتيب بحوزة الشروق).

وأما صديقي الآخر فمأساتُه لا تختلف عن مأساة صديقي الأول، لأنه كبيرٌ في السن وحسَّاسٌ ومؤدب وداعية إلى الله تعالى.. وما أردت من هذا كله إلاّ أن تتنبه الحكومة والوزارة إن كانت جادة في الإصلاح والتغيير، من أن التغيير لن يكون بهؤلاء الفاسدين والمفسدين، لأن الفساد واحد، والمُفسد واحد، والرذيلة واحدة، غير أن المتعاقبين عليها متباينون.. اللهم اشهد أني بلغت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
11
  • المتنبي

    مادام الطالب والأستاذ لا يمارسان فعل القراءة المقدس... ولا يكتبان حول ما يدور حولهما.. فلا مكانة للباحث الجاد في جامعاتنا...

  • حمو رابي

    إنها أموال البترول و الغاز التي جعلت الفساد يتفشى في البلاد.اللهم أفني هذا البترول الذي أصبح نقمة علينا و سلط علينا المفسدون في الجامعات والتي كان من المفترض أن تكون مكانا للمتميزين

  • khaled

    شكرا جزيلا علي هذه المعلومه القيمة علي واقع الجامعة الجزائريه، لقد نشر مقالك في وقت جد منتاسب بالنسبة لي.
    افكر في العودة الي ارض الوطن اكثر من سنتين، مع كثرة تانيب الضمير وهي يجب ان تستفيد بلدي وجيل المستقبل مما تعمت،ونقل الخبره العلمية هناك، لكن بعد قراءة مقالك جعلني ادرك ان البلد مازالت كما تركتها منذ اكثر من ربع قرن. الله المستعان.

  • طارق الجزائري

    شكرا دكتور على صراحتك فيما يخص الواقع المترهّل لجامعاتنا، والحقيقة أن إصلاحها ليس بالأمر الهيّن فممارسات أسرتها هي نتيجة تراكمات وأزمات سياسية و اجتماعية واقتصادية مرّت ببلادنا ألقت بظلالها على مؤسسة الجامعة كما على المؤسسات الأخرى.

  • Imazighen

    متى تنتهي المحسوببة، تم تعيين مدير جامعة الجزائر 3، وهو لا يسمح له القانون بذلك، لانه متقاعد ويدرس في الجامعة كمتعاقد، اما مسالة فقهه في العلم والتسيير حدث ولا حرج...

  • ابو مريم الجزائري

    بسم الله الرحمن الرحيم
    بارك الله فيك، و جزاك الله خيرا
    " إذا اسند الأمر إلى غير أهله ...."
    ولا أزيد

  • Honore

    شكرا لكم أستاذي الفاضل على هذا الإبلاغ في تعرية حال الجامعة الهزيل الذي لا يبشر بخير إذ أن الكذب لا ينتج إلاَّ الهلاك و الضياع.

  • الحمار لم يرجع

    وام عمر لم ترجع والمشكلة اكبر من الحمار المشكلة ان المسؤول عن التنصيب والتنحية اسهل له بكثير من البحث او تغطية جادة لملتقى تحسيسي حول كورونا مثلا

  • نوع استفزازي

    اخر يطل عبلة وعنتر ويقول ان السيادة الوطنية تتهم اولادها بعدم الاحترام

  • موسكو

    تشكو من مشاكل شبيهة

  • التفاؤل

    كوني طالبة لا اعد مداخلتي في مستوى الطالب الذي يجب عليه قراءة 798كتاب الا ان القراءة السريعة لمنحى الذبابة التي تزن ولا ترى حتى تصطدم بالواقع الا ان الخروج اسهل بكثير من مرحلة البحث وهناك من يضع نفسه اللائق لحل مشكلات جمييع القطاعات هيهات فساد فقط ان لم تكن هناك رؤوس تحتل اماكن لها جاهزية لقضم اكبر حصيلة خسارة مادية كمشروع متوقف