-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هكذا يعاملنا الله بلطفه وستره لنفرّ إلى عفوه ورحمته

سلطان بركاني
  • 2186
  • 3
هكذا يعاملنا الله بلطفه وستره لنفرّ إلى عفوه ورحمته
ح.م

لو جلس الواحد منّا مع نفسه جلسة محاسبة ومؤاخذة، ونظر فيما يصعد من أعماله وأقواله وأحواله إلى الله، وفيما ينزل إليه من خالقه جلّ في علاه، لشعر في نفسه بالحياء من مولاه، وهو يتذكّر أخطاءه وزلاته وغفلاته التي ترفع كلّ يوم، وإلى عفو الله وستره ورحماته التي تنزل إليه..شرّنا إليه صاعد وخيره إلينا نازل؛ يحلم عن أخطائنا وغفلاتنا ويعاملنا بلطفه ورحمته، ويتودّد إلينا بنعمه وآلائه، لنؤوب ونتقرّب إليه، وننعم بحياتنا في ظلّ طاعته ومرضاته.. ربّنا الحنّان سبحانه ما أراد منّا أن نكون ملائكة منزّهين، وإنّما أراد لنا أن نكون عبادا توابين؛ نُقرّ له بضعفنا وتقصيرنا ونفرّ من عذابه إلى رحمته، ونستغفره ونبكي بين يديه وندعوه بقلوبنا وألسنتنا أن يتوب علينا ويسترنا في الدّنيا والآخرة.

يقول المولى –سبحانه- كما في الحديث القدسيّ: “يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِيْ وَرَجَوتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِيْ، يَا ابْنَ آَدَمَ لَو بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمّ َاستَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ لَو أَتَيْتَنِيْ بِقِرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لقِيْتَنِي لاَ تُشْرِك بِيْ شَيْئَاً لأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغفِرَة” (الترمذي).. كلمات تفيض رأفة وحنانا، لتملأ القلوب أنسا واطمئنانا، ما قالها بشر لا يملك ضرا ولا نفعا، وإنّما قالها من بيده ملكوت السّماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كلّه؛ يخاطب بها عباده المؤمنين، يحدوهم فيها إلى أن يدعوه ويستغفروه، مهما بلغت ذنوبهم وخطاياهم، ويعدهم بأنّه سيغفر لهم ويتوب عليهم ويسترهم.. يقول أحد الصّالحين: “ابتلاني اللهُ بذنبٍ لم يفضحني فيه أبدًا، وكنت كلما وقعت فيه وسُتِرتُ سارعت إلى التوبةِ بركعتين في الخفاء، فيراني من يراني من أهل بيتي (أي يرون صلاته)، فأجدُني أتحرّى الخفاء في الذنبِ والتوبة، فيسترني الله في الأولى ويُظهر عنّي الثانيةَ، فيطيبُ ذِكري بين الناس، فأقول: سبحانه! يُقيمُ عليَّ الحُجّةَ برحمتِه، ويدعوني إليه بسِترِه! فما زلت في ذلك حتى عزمت الصلاحَ وعاهدته على التوبةِ أبدًا، ولم أجده إلا مُعينًا كريمًا، فيهديني إلى الندمِ عن جحودي، وإلى الدمعِ عن زلّتي، ولا أظنُّه إلا توفيقًا منه ليغفر لي، أو هكذا أرجو”.

وهو الحَيِيُّ فَلَيسَ يَفْضَحُ عَبْدَهُ * عندَ التستّر مِنْهُ بالعِصْيَانِ

لَكِنَّهُ يُلْقِي عَلَيْهِ سِتْرَهُ * فَهْوَ السَّتِيرُ وصَاحِبُ الغُفْرَان.

ربّنا الحنّان المنّان –سبحانه- يريد منّا أن نفرّ ونؤوي إليه ونتضعّف بين يديه، ليسترنا ويجبرنا، كيف لا وهو الستّير سبحانه.. يقول أحد الصالحين مناجيا مولاه:

أنتَ الذي صورتني وخلقتني * وهديتني لشرائع الإيمانِ

أنتَ الذي أطعمتني وسقيتني* مِن غيرِ كسْبِ يدٍ ولا دُكّانِ

أنتَ الذي آويتني وحبوتني * وهديتني من حيرة الخذلانِ

وزرعتَ لي بين القلوبِ مودةً * والعطفَ منك برحمةٍ وحنانِ

ونشرتَ لي في العالمين محاسناً * وسترتَ عن أبصارهم عصياني.

والله لو علِموا قبيح سريرتي * لأبى السلامَ عليّ من يلقاني

ولأعرضوا عني وملّوا صُحبتي *ولبؤتُ بعدَ كرامةٍ بهوانِ

لكنْ سترتَ معايبي ومثالبي * وحَلمتَ عن سقطي وعن طغياني

فلك المحامدُ والمدائحُ كلها * بخواطري وجوارحي ولساني.

المولى –سبحانه- يستر عبده ويمدّه بالصحّة والعافية، وربّما يبتليه ليتوب ويقلع، ويظلّ يستره حتى إذا استهان العبد بستر الله وغرّه إمهاله وتمادى ولم يبال باطّلاع مولاه، عند ذلك فقط يفضحه الله، ويخرج للنّاس ما كان يخفيه عنهم، يُروى عن الفاروق عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- أنه قال لسارقٍ اعتذر أنها أول مرة: “كذبت، إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة”، وبعد أن قطعت يد السارق سأله علي رضي الله عنه: هل كانت سرقتك الأولى قال لا بل سرقت مراراً.

ستر هذه الدّنيا نعمة من أجلّ نعم الله على عباده، لكنّ هناك سترا هو أعظم وأجزل، هو ستر الآخرة، يقول النبيّ عليه الصلاة والسلام: “إن اللهَ يُدْنِي المؤمنَ، فيَضَعُ عليه كنفَه ويَسْتُرُه، فيقولُ: أتَعْرِفُ ذنبَ كذا: أَتَعْرِفُ ذنبَ كذا؟ فيقول: نعم. أَيْ ربِّ، حتى إذا قرَرَّه بذنوبِه، ورأى في نفسِه أنه هلَكَ، قال: ستَرْتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفِرُها لك اليوم، فيُعْطَى كتاب حسناتِه”.

عندما نعلم هذا من ربّنا الحنّان سبحانه ونعلم أنّه يتودّد إلينا بعفوه ومغفرته وستره، فإنّ الواجب علينا أن نستحي منه، ونملأ قلوبنا بمحبّته وتعظيمه، لا أن نتجرّأ عليه، ونغفل عن اطّلاعه على أعمالنا وأقوالنا وأحوالنا وما تكنّه صدورنا.. كان الصّالحون من عباد الله، يستحي الواحد منهم من مولاه أن يطّلع عليه وهو يفكّر في سوء أو خطيئة، فيستغفر من مجرّد التّفكير مع أنّه ليس مؤاخذا فيه ما دامت نفسه لم تمل إليه.. وهكذا ينبغي أن يكون شأن كلّ عبد مؤمن يعلم أنّ سعادة الدّنيا والآخرة في الخوف من الله وخشيته والحياء منه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • شخص

    الحمد لله على كل حال و نعوذ بالله من حال أهل النار.

  • إبراهيم

    جزاك الله خيرا و جعلها في ميزان حسناتك و بارك الله فيك سيدي على هدا الموضوع بالدات و بهاته الكلمات الطيبة التي تبث في نفوسنا الطمأنينة و التي تشجع الغافل منا ليفر للتوبة و التائب منا على المزيد من الثبات و الأجر
    جمعنا الله و إياكم في رحمته الواسعة بالصالحين من عباده في جنات النعيم آمين يا رب العالمين

  • عبد اللطيف

    بارك الله فيك، اللهم اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم.