هل الوطن للجميع؟
منذ ثلاث سنوات قدم المفكر الجزائري عمار طالبي طلب اعتماد ملف جمعية وطنية باسم الفيلسوف الجزائري “مالك بن نبي”، وحتّى الآن لم يتلق ردّا من وزارة الداخلية. وهناك عشرات ملفات طلب الاعتماد في مجالي المجتمع المدني والأحزاب، لم يتلق أصحابها حتى “وصول الاستلام”، وكأن المطلوب من الجزائريين الابتعاد عن العمل السياسي والإعلامي والمدني والتوجه إلى مجالات أخرى، فهل يشكل إنشاء جمعية أو حزب أو جريدة أو إذاعة أو تلفزة خطرا على البلاد والعباد؟
-
أول الغيث قافلة!
-
أول قافلة ثقافية كانت عام 1963، وكان هدفها هو محو الأمية باللغة الفرنسية في الجزائر، وثاني حملة كانت تطوعية طلابية في أوساط الفلاحين مع بداية الثورة الزراعية كرّست لدى الفلاحين المصطلحات الفرنسية ذات العلاقة بالفلاحة.
-
وتلتها حملة تعريب الشوارع والمحلات التجارية والخدمات العمومية فصارت الفرنسية تكتب بالحروف العربية خوفا من العقارب. واستفاد أساتذة الجامعات باللغة الفرنسية من منح إلى الأقطار العربية.
-
ولم يعد الاعتبار للعربية إلا مع بداية التعددية السياسية والإعلامية سنوات (1989 – 1991)، بحيث صار التنافس على الخطاب باللغة العربية للوصول إلى الشعب هو الطريقة المثلى، ودخلت لأول مرة في تاريخ الإعلام الفرنسي اللغة العربية إلى المحطات الفضائية الفرنسية بحيث صارت الندوات السياسية للأحزاب الفاعلة في الجزائر تجرى بالعربية، ولو لم يتم المسار الانتخابي، واستمر الوضع الذي كان يسميه وزير داخلية سابق بـ(البازار الإسلامي)، لاندثرت اللغة الفرنسية من حياتنا اليومية، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فالفرنسية استرجعت مكانتها وصارت لغة اجتماعات الحكومة ومجلس الوزراء والملتقيات الدولية والوطنية ودخلت إلى المساجد.
-
ويبدو أن القافلة العلمية التي بدأها غلام الله من المنطقة القبائلية باتجاه بقية ولايات القطر الجزائري جاءت في وقتها، فقد ربطت المساجد بأساتذة الجامعات وأيقظت الإحساس بالثقافة الوطنية ودورها في دعم الهوية وجعلت الإمام والفقيه وشيخ الزاوية يحتكّ بالأستاذ الجامعي ويستفيد من طريقة إلقاء المحاضرات والمداخلات وأساليب التلخيص والأداء.
-
وإذا تحولت هذه القافلة العلمية إلى برنامج سنوي مدعّما بإصدارات ومعززا بأشرطة ووثائق وشهادات للعلماء والباحثين، فإنه بإمكاننا أن نستغني عن وزارة الثقافة التي صارت مهمّتها منع الكتب وإقامة “الأعراس” وتجميد المكتبة الوطنية وتحويل مقر اتحاد الكتاب إلى “متحف”، عوض الدفع بالكتاب إلى إنشاء اتحاد كتاب يساهم في الحياة الثقافية.
-
لو أن كل وزارة تبادر إلى إنشاء قافلة في مجال اختصاصها وتنتقل بين الأرياف والمدن للتعريف بها وبما تنتجه أو التحسيس بدور المواطن في عملها، ربما تكون قد حققت تواصلا مع هيئاتها على مستوى الولايات التي تحولت إلى غير أهلها.
-
قد لا يصدق البعض حين أقول إن هناك مديري إذاعات جهوية لا يملكون شهادات علمية، وأن هناك “إطارات” تابعين لوزارات ليست لهم علاقة بالوزارة الوصية. وحين يتساءل والي جديد في حضور إطارات الولاية: “هل المدينة هي الوسخة أم أنتم؟”، ندرك مدى حجم المأساة التي تعيشها العديد من الولايات بسبب “الفساد” الموجود فيها.
-
-
التربّص بالآخر
-
وحتى يكون لـ”القوافل العلمية” مردود، فعلى السلطات فتح المجال أمام العمل السياسي والجمعوي، بفتح باب الاعتماد أمام الأحزاب والجمعيات حتى نستأصل فكرة “التربّص بالآخر” التي صارت “سياسة وطنية” و”مشروعا لبناء مجتمع افتراضي”.
-
حين دخلت مفردة “التربص” إلى القاموس الجزائري قادمة من تونس حملت معنى “التكوين والإعداد”، فصارت “التربصات” في جميع المجالات حتى خيّل لي أن مضمونها اللغوي القاموسي تغيّر حتى مع بداية التعددية. غير أنني اكتشفت الآن، أنها عمّقت مفهومها اللغوي في العلاقة بين السلطة والمواطن، وبين المواطن والسلطة.
-
فالتربّص لم يعد بمعنى “التأهيل أو التكوين” وإنما عاد إلى معناه اللغوي وهو “الترصد للآخر”، بحيث صار أعوان الأمن يتربصون بالمواطن للقبض عليه متلبسا بأية تهمة كانت، والمواطن صار يتربص بالسلطة عبر أعمال تصفها السلطة بـ(الشغب) حتى يشعرها بوجوده.
-
ففرق الدرك والشرطة والرادارات صارت تتربص بالسائقين لسحب رخص السياقة، بحيث يختفي أحدهم بالكاميرا أو وراء شجرة أو داخل سيارة مواطن آخر، ويتربص بمن لا يحترمون إشارات المرور حتى يخيّل لك أنك في “فيلم من أفلام المافيا القديمة”!
-
إذا كان السائق لا يحترم إشارات المرور وعون الأمن لا يحترم اللباس الذي يرتديه والقوانين المفروضة عليه، والإثنان يقومان بدور الفأر والقط، فإن مفهوم أمن المواطن والوطن يفقد معناه.
-
إن قوة الأمن في وجوده العلني في خدمة المواطن وفي وجوده السري في خدمة الوطن. والمواطن الصالح الذي يرى مثل هذا السلوك ولا يجرؤ على فضحه يصير جمهور هذه المسرحية الهزلية.
-
إن التربص بالآخر هو جريمة في حق ثقافة الأمن الوطني وثقافة المواطن، ويؤدي إلى فقدان الثقة في الآخر. لأن المواطن الذي يسلم له “وصل المخالفة” وتسحب منه رخصة السياقة حتى يدفع ثمنها، إنما تعلّمه عدم الثقة في السلطة. وعدم الثقة في الأمن، فإذا كانت المخالفة في قانون المرور لا تسمح بسحب شهادة السياقة، فلماذا لا نحترم القانون ونقدم الوصل وإذا لم يدفع ثمن المخالفة في فترتها الزمنية نتابعه قضائيا حتى نقضي على الرشوة والمحسوبية.
-
إن وجود القانون في غياب القضاء لا معنى له، وسحب رخصة السياقة في المخالفات العادية مثل وجود أضواء لا تشتعل أو أي عطب آخر في السياقة يؤدي بالضرورة إلى التعدّي على حقوق المواطن.
-
والسلطة التي يصير “مشروعها الوطني” هو سحب رخص السياقة و تسجيل المخالفات، دون الاهتمام بأوضاع الطرقات والإشارات غير الموضوعة في أماكنها، هي سلطة لا تملك القدرة على كسب احترام المواطن لها. وتعتقد أن “تغريمه” يفيد البلاد والعباد.
-
إن السلطة لا تفرضها المخالفات ولا “التسلّط”، وإنما كيفية تسهيل الحياة المعيشية للمواطن وحماية أمنه. ومادامت المتاريس والإسمنت المسلح هو واجهة المؤسسات الأمنية، فإنه من الصعب الاقتناع بأن هناك أمنا في البلاد.
-
إن أمن الأمن من أمن المواطن وأمن المواطن في الثقة بالأمن ورجاله. وقانون المرور الحالي لا يساهم في استرجاع ثقة المواطن في الأمن ولا ثقة أمن الطرقات في الأمن.
-
إن ظاهرة “التربص بالآخر” قد تؤدي في النهاية إلى المواجهة وربما إلى عودة “الحواجز الأمنية المزيفة” لقطاع الطرق، خاصة وأن الاعتداءات على المواطنين كانت في الطرق السيارة والسريعة ذات الحواجز الأمنية.