-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل بيئة الأعمال الريادية ضرورية لظهور ونجاح المؤسسات الناشئة؟

د. عمر هارون
  • 275
  • 0
هل بيئة الأعمال الريادية ضرورية لظهور ونجاح المؤسسات الناشئة؟

نشأة شاب سويٍّ في الأخلاق والتربية والمستوى العلمي لا تكون إلا إن كانت البيئة التي شب فيها هذا اليافع مناسِبة لما أصبح عليه، من خلال عائلته الصغيرة، فحيِّه، وصولا إلى المدرسة والمتوسطة والثانوية التي تعلَّم فيها، فالجامعة التي درس فيها أو المهنة التي احترفها، مع الحرص على التناغم بين مكونات مؤسسات التنشئة هذه، ولا يخرج عن هذه القاعدة إلا حالات نادرة تحفظ ولا يقاس عليها.
كذلك هو حال الفكرة الابداعية الريادية التي يراد لها أن تتحول إلى فكرة مشروع فمؤسسة ناشئة مجسَّدة في أرض الميدان قد تتحول مستقبلا إلى عملاق في الاقتصاد الوطني والعالمي كما قد يتحول الشاب السوي إلى قدوة في المجتمع المحلي وحتى الدولي، إذا فأنّ نجاح المؤسسة الناشئة مرتبط بشكل كبير بالمحيط الذي تعمل فيه وبالعلاقة القوية والتناغم بين مكوِّناته.

الازدهار أو الاندثار
إن قدرتك على صياغة بيئة مناسِبة للأفكار الابداعية ستمنحها القدرة على الازدهار بشكل سريع ويرافقها لتحقق النمو الأسي الذي تعرف به المؤسسة الناشئة، وغياب أو تعطل هذا المحيط سيحوِّل أي اقتصاد إلى مقبرة للأفكار مهما كانت جيدة أو متميزة.
ولهذه البيئة مكونات تختلف من نموذج إلى آخر لكنها تبقى متقاربة وفق نظرة عالمية تحددها عموما في 06 متغيرات أساسية تتمثل في: السياسات المنظمة للبيئة الريادية، الجوانب التمويلية للمؤسسات الناشئة، تنظيم السوق (داخليا وخارجيا)، الثقافة الريادية، رأس المال البشري والبنى التحتية. مع الأخذ بعين الاعتبار أن بعض النماذج تفكِّك بعض هذه العناصر إلى ثلاثة أو أربعة متغيرات وهو أمر يبقى متاحا حسب طبيعة البلد والاقتصاد الذي نعمل فيه.

نحو تحرير السياسات المنظمة للبيئة الريادية
لا يمكن لأي مؤسسة ناشئة أن تظهر وتزدهر إذا لم يكن هناك مرافقةٌ قانونية لإنشائها خاصة ما تعلق بالتعامل الاداري مع هذه المؤسسات الفريدة، وأبرز النماذج العالمية تعتمد على تحرير هذه المؤسسات من براثن الإدارة والسماح لها بالسباحة في فلك استثنائي، خاصة أن أغلبها يحاول أن يستحدث محيطا أزرقَ خاصا به قد لا تنتبه إليه مؤسسة أخرى، لأن المؤسسة الناشئة سرعان ما تخرج من حيِّزها إلى الحيز العادي إذا أصبحت المنافسة في المجال الذي تعمل به كبيرا وهو ما يحتم تراجع نموها الذي يعدّ الأساس في تطورها.
ومنه، فالتنظيم الذي يجب أن يكون عليه أن يعطي لأصحاب الأفكار الابداعية والابتكارية الراغبين في إنشاء مؤسساتهم حرية أكبر في العمل والإنجاز من دون المرور على مراحل إدارية كابحة للإبتكار ومعطِّلة للوقت، والسوق وحده هو القادر على تقبل الفكرة أو رفضها، ولعل العديد من المؤسسات التي أصبحت مضربا للمثل اليوم كانت تعدّ في بدايتها أفكارا مجنونة لا مجال لنجاحها.

تمويل المؤسسات الناشئة
إن تمويل فكرة إبداعية وابتكارية لشاب قد لا يملك حتى ثمن غدائه لا يمكن أن يكون من قِبل مؤسسة بنكية لا تؤمن إلا بالربح المضمون الذي يتأتى في حجم الضمانات التي تطلبها في حال وجود قرض، وعليه فالمنظومة التمويلية للمؤسسات الناشئة لا تأتي عادة من المؤسسات التقليدية لهذا الغرض بل من صناديق المخاطرة والمستثمرين الملائكة والتمويل التشاركي والتي تعدّ نماذج تمويل تعتمد على الرغبة في المخاطرة من أجل الوصول إلى تحقيق ربح كبير، وكلها تعلم أن نسبة نجاح هذه المشاريع لا يتجاوز 10 بالمئة، لكن يقينهم دوما أن هذه النسبة قادرة على تحقيق أرباح تكفي لسد الخسائر المتأتية من 90 بالمئة الفاشلة وتزيد.

قدرتك على صياغة بيئة مناسِبة للأفكار الابداعية ستمنحها القدرة على الازدهار بشكل سريع ويرافقها لتحقق النمو الأسي الذي تعرف به المؤسسة الناشئة، وغياب أو تعطل هذا المحيط سيحوِّل أي اقتصاد إلى مقبرة للأفكار مهما كانت جيدة أو متميزة.

ولعل البعض يسأل عن سبب دخول ممولين في مجال يحمل كمًّا كبيرا من المخاطرة؟ والإجابة يكون بالتأكيد متعلقا بنوعية الفرص في الاقتصاد التقليدي والتي أصبحت تتلاشى شيئا فشيئا، وهو ما يجعل الرأسمالي مجبرا على ولوج هذا النوع من الاستثمارات حتى يكسر الاستقرار الموجود ويحاول تحقيق أرباح. إن غياب هذا النوع من التمويلات يجعل من المستحيل نجاح المؤسسات الناشئة في أي بلد.

تنظيم السوق الريادي داخليا وخارجيا حتمية
إن تنظيم الأسواق وتجهيزها لاستقبال المؤسسات الناشئة واحد من أهم المتغيرات القادرة على إنجاح تجربة المؤسسات الناشئة، خاصة أن جل المؤسسات الناشئة تُبنى على الحلول الرقمية التي تربط بين أصحاب العرض وأصحاب الطلب، بالاضافة لتنظيم شبكات التوزيع الكلية والجزئية، من دون إغفال عملية تنظيم شبكات التسويق للحدِّ من التحايل في الجودة أو الأسعار والقادر على تطوير مؤسسات تبيع الوهم افتراضيا للمستهلكين، وذلك من خلال قوانين ولوائح خاصة بهذا النوع من المؤسسات، كما أن العلاقة مع العالم الخارجي سواء تعلّق الأمر به كسوق للمنتجات أو كمصدر للتمويل ضرورة وحتمية لا يمكن طمسها لأن طبيعة المؤسسة الناشئة تحتِّم عليها أن تكون عالمية.

الثقافة الريادية أساس كل إبتكار
لا يمكن أن تطوَّر بيئة ريادة دون أن تعود للأصل وتعمل على مرافقة الناشئة على إنشاء مؤسساتهم الناشئة، فالمجتمات التي تؤمن بأن الوظيفة هي مصدر الأمان والدخل الثابت لا يمكنها أن تتوجه نحو المخاطرة والمحاولة، كما أن الفترة السِّنية لدى الشباب خاصة تجعلهم قادرين على المحاولة والتجريب خاصة أن ابتكاراتهم المسوَّقة في البداية تكون ضمن منطقة أمانهم، فهي إما تطبيقات تم استحداثها كتجربة أو مذكرات تخرّج عملوا عليها أو مشاريع فكروا فيها وأتمّوها من دون أن تكلفهم الكثير، لكن بمجرد أن يجدوا لها سوقا ومستثمرا متحمسا للمرافقة تتحول الأفكار البسيطة إلى مشاريع عملاقة، وبعدها تبدأ رحلة العمل والجهد والمثابرة.
لكن توجيه الشباب للمحاولة والبدء أصبح في الكثير من الأحيان تحديا يحتاج إلى خطة عمل وجهود مضنية، وهو ما يجب أن تتحمله المؤسسات التعلمية والجامعات ومراكز البحث والجمعيات والنقابات والمدربين المقاولاتيين وحتى المؤسسات الاقتصادية، لأنه يدخل ضمن المسؤولية الاجتماعية.

رأس المال البشري والبنى التحتية
إن العامل البشري أساس كل تطور ونجاح وقدرتنا على تطوير هذا العامل حاسمة في مجال المؤسسات الناشئة، فلا يمكن لأي مشروع أن ينجح من دون هذا العامل، والمساهِمُ الرئيسي فيه هو الجامعات ومراكز البحث خاصة بالنسبة للدول التي لا تملك جامعات ومراكز بحث خاصة والحاضنات العامة والخاصة ومراكز لتصنيع النماذج الأولية (fab lab)، يضاف لها مسرعات الأعمال.
ولا يمكن للعامل البشري أن يؤدي ما عليه إلا إذا كانت البنى التحتية في المستوى المطلوب من خلال وجود الطاقة والربط بالانترنت، بالإضافة إلى برامج متنوعة في الاحتضان وتسريع المشاريع المطروحة في الاقتصاد.

التجربة الجزائرية والواقع
لا أظن أن مقالا صِحافيا قادر أن يحمل تقييما موضوعيا للبيئة الريادية في الجزائر، لكن الأمر الأساسي والرئيسي الذي يجب الإشارة إليه هو غياب القطاع الخاص عن مرافقة البيئة الريادية وعدم تواجده بالشكل اللازم فيها، وهو ما قلَّل نموَّها خاصة أن مراكز البحث ومراكز تصنيع النماذج الأولية محصورة فقط في قطاع التعليم العالي والبحث العلمي، وهو أمر يجعلنا نتساءل عن سبب عزوف القطاع الخاص الذي يملك كل الدعم لولوج هذا العالم خاصة من خلال قانون الابتكار المفتوح؟
إن أهم ما أردت توضيحه للقارئ من خلال هذا المقال هو أن نجاح تحويل فكرة إلى مشروع فمؤسسة ليس مرتبطا بطرف واحد ولا بجهة واحدة، بل هو نتيجة لتناغم وعمل بين مجموعة من الأطراف داخل ما يُعرف ببيئة الأعمال، وأن غياب أي عنصر من هذه العناصر سيجعل مسار الإنشاء معطَّلا مهما حاولت بقية مكونات البيئة التغطية عليه، وهو ما يجعلنا نقول إننا بحاجة إلى رسم خريطة واضحة لبيئة الأعمال الريادية في أي بلد مع ضرورة تحديد مهام كل عنصر فيها بدقة حتى نتمكن في مرحلة قادمة من تقييمه، إن أردنا فعلا تحقيق النجاح والتفوق.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!