-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل كانت النّقود متداولة في العهد النّبويّ؟

سلطان بركاني
  • 17394
  • 19
هل كانت النّقود متداولة في العهد النّبويّ؟

في كلّ عام، وفي الشّطر الأخير من شهر الصّيام، أحاول كبح جماح نفسي عن الكتابة في موضوع الخلاف المعروف والمشهور حول مشروعية إخراج زكاة الفطر قيمة، ولكنّي أفاجأ بكمّ وحِدّة المنشورات التي يتخم بها الفضاء الأزرق حول هذا الموضوع، وأقف على تلك الجرأة البالغة التي يتحلّى بها بعض الأتباع في تضييق الواسع والتّحجير على النّاس، بعبارات جريئة لا تكتفي بتبنّي القول بأنّ إخراج زكاة الفطر قيمة لا يجزئ، حتّى تتعدّاه إلى القول بأنّ ذلك لا يجوز! بمعنى أنّ إخراج زكاة الفطر نقودا فعل محرّم يأثم مقترفه!

في أزمنة مضت، كان العلماء وطلبة العلم الناقلون عنهم يتحرّزون –ما أمكن- من كلمة استعمال كلمة “حرام” في مسائل الاجتهاد والخلاف، حذرا من أن يكون لهم نصيب من قول الله تعالى: ((وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُون)) (النّحل: 116)، أمّا في زماننا هذا، فقد أصبحت كلمة “حرام” تجري على الألسن والأقلام بيسر وسهولة، وتُشهر بطاقة حمراء في كلّ خلاف، ليس على ألسن بعض العلماء وطلبة العلم فحسب، بل على ألسن الأتباع والمقلّدين كذلك، تماما كما يتساهل كثير من النّاس -في المقابل- في استعمال كلمة “هذا حلال” بعبارات تتنوّع وتتبدّل لكنّها تؤدّي الغرض ذاته، فهذا يقول: “نورمال”، وذاك يقول: “ما فيها والو”، وآخر يقول: “كِيف كِيف”… وهكذا.

العلماء معذورون بل مأجورون في اجتهادهم، مهما أصرّ بعضهم على إهمال مراعاة تغيّر الواقع فيما يتبنّون، لكنّ إصرار بعض طلبة العلم وكثير من الأتباع على التعصّب لأقوال هؤلاء العلماء هو الغريب في الأمر، خاصّة وهم يرون أنّ بعض أولئك العلماء بدؤوا يتردّدون في تبنّي القول بعدم مشروعية إخراج زكاة الفطر قيمة، ومنهم من تراجع أمام ضغط الواقع، وأمام توجّه الجهات الرّسمية إلى تبنّي القول بإجزاء القيمة.

مقاطع قديمة جزم فيها بعض علماء السّعودية بأنّ إخراج زكاة الفطر نقودا لا يجزئ، يروَّج لها وتبعث كلّ عام، مع أنّ الحجج التي تمسّك بها أولئك العلماء قد تكون مفتقرة إلى الفقه، أو بعيدة عن الحقيقة؛ ومن ذلك أنّ أكثر العلماء المتشبّثين بهذا القول يجزمون جزما قاطعا بأنّ النّقود كانت على عهد النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ومع ذلك لم يذكرها ضمن الأصناف التي تُخرج منها زكاة الفطر.. فهل هذا الكلام موافق للواقع حقيقة؟

نعم، النّقود كانت موجودة حقيقةً على عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، لكن هل كانت تستعمل على نطاق واسع؟ وهل كانت موجودة في كلّ بيت أو في غالب البيوت على الأقلّ كما هي الحال مع الأقوات التي أمر أن تُخرج منها زكاة الفطر؟

النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عندما بُعث بالحقّ، كان العرب يتعاملون بالدّينار البيزنطيّ والدّرهم السّاسانيّ، إضافة إلى الفلس البيزنطيّ الذي كان نادرا وقليلا، وكانت الدنانير البيزنطية تحمل رسوما لأباطرة الروم إضافة إلى بعض الرموز المرتبطة بمعتقداتهم، وكذلك كانت الدراهم الساسانية تحمل صور ملوك الفرس كما تحمل نقشا للنّار المقدّسة يحرسها جنديان، وظلّ التعامل بهذه الدّنانير والدّراهم طيلة الفترة النبوية، في أحوال قليلة كعملات، وفي أكثر الأحوال كمقادير من الذّهب والفضّة تكتنز.. صحيح أنّها كانت تستعمل في البيع والشّراء، لكنّ ذلك كان ضمن نطاق ضيّق؛ فكثير من المعاملات اليومية البسيطة كانت تتمّ بالمقايضة، سلعة مقابل سلعة، لأنّ هذه النّقود لم تكن في كلّ البيوت ولا متيسّرة لكلّ الأيدي، لذلك كان التركيز في الأصناف التي تخرج منها زكاة الفطر على ما كان متيسّرا لكلّ مسلم، لأنّ هذه الزّكاة يخاطب بها كلّ مسلم يملك ما يزيد على طعامه ليلة ويوم العيد، وأكثر من يُعنون بإخراجها لا يملكون دنانير الذّهب ولا دراهم الفضّة.

هكذا ظلّ الأمر في العهد النبويّ، وفي خلافة أبي بكر الصدّيق، وحتى في خلافة عمر بن الخطّاب قيل أنّه زاد على الدّينار البيزنطي والدّرهم السّاسانيّ بعض العبارات الإسلاميّة، لكنّ هذا لم يصحّ عند المحقّقين، وظلّ الأمر كذلك على عهد عثمان وعليّ وصدرِ الخلافة الأموية، إلى أن قرّر الخليفة الأمويّ عبد الملك بن مروان في العام 76هـ صكّ عملة خاصّة بالمسلمين بعد مشكلة القراطيس المشهورة مع الإمبراطور البيزنطيّ جستنيان الثّاني.

ليست تهمّنا ماهية النقود التي كانت على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، بقدر ما يهمّنا أنّها لم تكن موجودة في كلّ البيوت ولا متيسّرة لكلّ الأيدي ولا يجري استعمالها في كلّ المعاملات، بخلاف الطّعام الذي كان موجودا ومتوفّرا في أغلب البيوت، فلا يعقل أن يأمر النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- بإخراج النّقود –العزيزة- مع الأصناف الأخرى المتوفّرة، فيحتاج من يريد إخراجها إلى بيع الطّعام لتحصيلها، وهي المفارقة التي يقع فيها من يختار إخراج الطّعام في زماننا هذا، حيث يحتاج إلى حمل النّقود ليشتري بها طعاما يعطيه الفقراء، ليظلّ الفقراء في حاجة إلى سلع وأشياء أخرى ليست مشمولة بالأصناف التي تخرج منها الزّكاة، لينضج طعامه، فلو سلّمنا جدلا أنّ الفقير يحتاج إلى الطّعام فقط لترتفع عنه مذلّة الحاجة؛ فهو سيكون في حاجة إلى شراء الزّيت والطّماطم لطبخ طعامه، وفي حاجة إلى النّقود لدفع فاتورة الغاز الذي لا بدّ منه لطهو الطّعام، بينما كان الفقير في زمن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لا يحتاج إلى كلّ هذا؛ إنّما كان يكفيه أن يطحن القمح ويصنع به خبيصا لذيذا مع بعض السّمن المتوفّر في أغلب البيوت على نار لا يكلّفه إيقادها دينارا ولا درهما.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
19
  • حميد علي

    الدينار الذهبي ٤٠٢٥غرام. من ذا الذي تبلغ زكاة فطره و أهله هذه القيمة حتى يخرجها نقدا؟!!

  • سي امخمد

    اضف الى ذلك قيمة الدينار الذهبي والدرهم الفضي التي هي اعلى بكثير من قيمة الزكاة

  • عادل حمود - ليبيا

    سلمت يداك

  • مهلا ...الإسلام دين المنطق

    الإسلام دين المنطق ويخاطب أولي الألباب أي الذين يتفكرون فالبعض هنا يتفلسف ويتشدد في الزكاة وإخراجها عينا وهو بذلك يضيق واسعا كما قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي دعا قائلا (اللهم ارحمني وارحم محمدا ولا ترحم معنا أحدا) ... فتصور أن فقيرا لا يملك ملبسا أو نعلا أو حذاء وكل الناس تعطيه الدقيق فهل سيستره الدقيق بالله عليكم؟ بل الأحرى والأجدر أن نعطيه قيمة ذلك نقدا ليتصرف فيه ويشتري ما يريده فلا أحد يموت من الجوع ببلدنا والحمد لله فلماذا نزكي الدقيق؟ صحيح أنه يمكن أن تـُخرج زكاة الفطر من قوت البلد السائد أي الذي يأكله الناس في الغالب، ولكن فقهاء المالكية أجازوا إخراج قيمة زكاة الفطر بدل الطعام إن كان ذلك أرفق بدافعها أو بالفقير المستفيد منها ليقضي بها مآربه. ولا يجوز دفعها إلا للفقراء والمحتاجين.

  • عبد الحكيم الجزائري

    حسنا !! انت تخلط بين الصدقة وزكاة الفطر يعني الموضوع في واد وانت في واد آخر ... لم اكن أعتقد انه يوجد من يصحح اخطاء السيرة النبوية او شرع الله عز وجل هذا اعتقادك وحدك بإختصار ... لو كان للنقود مقدار في زكاة الفطر لقدرت قدر الارز والزبيب و..و..و هداك الله وأصلح بالك

  • ahmed

    ان حاجة الماسة للمسلم اليوم في الطعام لاتقارن بثمن .فقد يكون عندك مال كثير ولاتستطيع الحصول على كيس من دقيق . فلما نتفلسف في نص قطعي الدلالة .قال رسول الله ﷺ: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.) علينا أن نعطي زكاة الفطر طعاما كما امرنا بها رسول الله ﷺ

  • حسين بوكحيلي تونس

    بارك الله فيك، ونفع بك.بارك الله فيك، ونفع بك.

  • أمانة العواطف الصادقة خلاص وإخلاص

    لا يوجد شيئ يسمى زكاة في عالم الانسان السليم وإنما يوجد حق لا يطلبه صاحبه بل يناله صاحبه دون أن يطلبه فعالم الانسانالسليم لا يساوم بالمال وانما بالعطاء وما هو المال !؟ مجرد أدات نظامية تدير العجلة الاقتصادية بنظام مريح والخبثاء حولوا الال الى أدات ثراء و فقر فقل الاثرياء و كثر الفقراء العدالة لا تعني المساواة العدالة تعني الإنصاف لكن المال هنا لا محل له من الاعراب جب ان يكون في يد الجميع و بما يكفي و زيادة هكذا فقط تزول الحاجة هكذا فقط يشعر الانسان بذروة كرامته هكذا فقط يبدع المجتمع في كل شيئ هكذا فقط تدور العجلة الاقتصادية دوران سليم

  • algerisano

    je trouve votre article trés logique!malheureusement de notre temps tout le monde est devenu Mufti, si Fahhoum! parceque parler c'est gratuit! salamsaaha ftorek

  • ahmed

    فرضا ان صح قولك بان استعمال النقود في ذلك الزمان كان على نطاق ضيق . لكن الله عزوجل هو الذي اوحى لرسوله صل الله عيه وسلم وحدد له هذه الاصناف من طعام البلد الخاصة بزكاة الفطر . والله عالم الغيب وخالق كل شيئ يعلم انه ياتي زمان يصبح استعمال النقود هو الساىد .وقال تعالى(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ)

  • كلمة حق،

    جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير) [متفق عليه]. وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (كنا نعطيها زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط) [متفق عليه]. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما نهيتكم عنه، فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم». رواه البخاري ومسلم.

  • استفسار،

    ولكن اخراج زكاة الفطر نقدا لن ينفع الفقير بشيء و لن يقضى عنه حاجة لانه مجرد مبلغ بسيط في غالب الاحوال لا يتجاوز 1000 دج.

  • خليفة

    جدل بيزنطي حول اخراج زكاة الفطر ،و الغريب في الامر مازال بعض المتزمتين من مدعي الفقه يصرون على اخراجها عينا معبرين بذلك عن تعصب لراي فقهي دون تفقه حقيقي في الدين ،و هذا التعصب الاعمى يضيق واسعا في هذه المسالة ،متغافلين عن الواقع الذي يعيشونه و الذي صار فيه تلبية كل الحاجات الضرورية للحياة عن طريق النقود ،فاذا كانت هذه الاخيرة غير ضرورية في التعاملات الاقتصادية كان يمكن التخلي عليها ،و لكن الواقع غير ذلك ،و من هنا فالاشكال محلول عمليا ما دام الفقير يحتاج الى الدراهم اكثر من حاجته الى السميد ،لانه يستطيع ان يلبي بها حاجات اخرى لها ضرورتها عنده ،و في نهاية المطاف العبرة بالمنفعة التي يحصلها الفقير من الزكاة سواء كانت عينا او نقدا.

  • مواطن

    بارك الله فيك، ونفع بك... أنصع ما في الإسلام يسره ومراعاته أحوال الناس باختلاف أزمنتهم وأمكنتهم، وأغلب الداء يأتي من التعصب والحقد الدفين على الطرف المخالف.

  • CDVH

    اظن ان هذا المقال ينطبق عليك، لانك تحلل وتحرم بدون ادلة. كن صادقا و اكتب مقال يتكلم عن اقوال العلماء المعرفين في هذا الامر و الادلة التي اعتمدوا عليها في عدم تجوز اخراج زكاة الفطر نقدا و العلماء الذين اجازوا ذلك. ستجد ان معظم العلماء لا يجزون اخراجها نقدا و على راسهم الامام مالك الذي تتحججون دوما باتباع مذهبه و تنكرون على من يخالفه.

  • hadj

    بوركت... ما قرأت أجمل من هذا التنوير في هذا اللبس

  • بوزيد

    الفقه من رخصة فالتشدد يحسنه كل واحد عندما ترزق حسن الفهم والتدبر مع التامل تاتي الحلول التي لاتتعارض مع الشرع الحنيف مع الابتعاد عن احتكار الحقيقة. فعندما يقول قائل ان مسالة اخراج زكاة الفطر طعام اهل البلد مسالة تعبدية ولا ياتي بالدليل فما ذا تنتظر منهم.

  • قل الحق

    استغفر الله ان ادعي الفتوى فلست مؤهلا لها تماما، كل ما في الامر انني لا افهم التالي: اذا كان يجوز مثلا اخراج كيلو من العدس فكيف لا يجوز اخراج ثمن كيلو العدس رياضيا و عقليا هذا معقول جدا اذا كان لا يجوز اخراج النقود لان السنة تقول عدس او غيره، فمن المفروض ايضا بهذا القياس ان نركب الجمال و ليس السيارات الرباعية الدفع و انا اعلم جيدا ان ركوب الدابة ليس عبادة كالزكاة لكن لبس القميص ايضا ليس من العبادات لكن اتباع لسنته صلى الله عليه و سلم في اللباس. اكرر باصرار انا لا اتصدى للفتوى فليس لي اي حق في ذلك انما استعمل عقلي فقط، عقلي الذي فظلني به الله على سائر المخلوقات و طالبني باستعماله في التفكر و التدبر، ارجو ان لا اصنف ضمن اصحاب المذهب العقلي اريد ان افهم فقط و مستعد لتقبل البيان في الامر لكن دون ان يقال لي ان الشيخ فلان و الشيخ فلان قالا بذلك و اختزال الاسلام فيهما و تحجير الواسع.

  • ياسين

    عندما يغيب العقل يكثر الجهل ...فمادام هؤلاء فتحوا الباب فلندخل ولنقل لهم أيضا: إن الهاتف، والسيارة، والفضاء الأزرق، والطائرة....كل هذه الأشياء التي يستعملها هؤلاء المتعالمين لم تكن موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم... فلماذا يستعملونها؟