الرأي

هل كتب مالك بن نبي كتاب العفن؟

محمد بوالروايح
  • 1052
  • 0

خلافا لكل كتبه، فإن كتاب “العفن” لمالك بن نبي قد ثارت حوله شكوكٌ كثيرة وصلت عند بعضهم إلى حدّ كونه كتابا منتحلا كتبه معلومٌ أو مجهول ونسبه إليه، وقد تتبعتُ ما كتبه المشككون فلم أقف لهم على دليل دامغ يؤكد فرضية الانتحال، فمجرد الشك في نِسبة كتاب إلى فلان أو علان أمرٌ لا قيمة له من الناحية العلمية إلا إذا أشفعه صاحبُه بالدليل الذي يقطع الشك باليقين عملا بقاعدة: “إن كنت ناقلا فالصحة وإن كنت مدّعيا فالدليل”. لقد كان هناك على سبيل المثال خلافٌ حول نسبة كتاب “العين” إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي، ولكن الذين اختلفوا في ذلك ساقوا من الأدلة ما يجعل لأقوالهم قيمة رغم اختلاف الرؤية، ولأجل ذلك لم يعِب النقادُ على النووي وابن حجر العسقلاني والمبرّد والزّجاجي قول بعضهم بصحة الانتساب وقول آخرين ببطلان ذلك أو توسُّط بعضهم الآخر.

إن التشكيك في نسبة كتاب “العفن” لمالك بن نبي يطال بالدرجة الأولى شخصيتين اثنتين يضعهما المشككون في قفص الاتهام لأنهما كانتا على صلة مباشرة ببن نبي وهما عبد الصبور شاهين والمحامي عمر كامل مسقاوي؛ فالأول بصفته المترجم لكتب بن نبي والثاني بصفته المستأمن على كتبه على وصية هذا الأخير. أما عبد الصبور شاهين الذي عهد إليه بن نبي بترجمة كتبه فقد استغنى عنه لأسباب فصّلها في مذكراته “الدفاتر les Carnets”.

لقد اتهم بن نبي عبد الصبور شاهين بخيانة الأمانة والسطو على أفكاره، ولعل عبارته في هذا الصدد أبلغ وصفا ولذلك أنقلها بحرفيتها كما وردت في الترجمة :”.. مترجِم كتبي عبد الصبور شاهين، الشاب الذي أخرجته من الظلمة لأجعل منه مترجمَ “الفكرة الإفريقية– الآسيوية” و”الظاهرة القرآنية”، ومن خلالها تعلّم مهنة المترجم، تاركا له الفوائد المعنوية والمادية للترجمة وكاشفا له عالم الأفكار –أفكاري- التي تمثل تقدُّما ببعض العقود في الجبهة الفكرية للعالم الإسلامي، هذا الشاب الذي منحته الكثير منذ ثلاث سنوات يكافئني في مقابل جميلي ويقول لي إن الكتب التي ترجمها تعود إليه وهي ملكه. بالتأكيد الوعي الإسلامي هاوية لا قرار لها بالنسبة للذين يسمّون المتثاقفين على الأقل”.

يتبين من كلام بن نبي رحمه الله بأن مهمة شاهين قد توقفت عند ترجمة كتابين اثنين لا ثالث لهما وهما “الفكرة الإفريقية- الآسيوية” و”الظاهرة القرآنية” ونستخلص من هذا مبدئيا أن شاهين لا صلة له بكتاب “العفن” وبكتب بن نبي الأخرى، ولكن التهم الثقيلة التي وجَّهها بن نبي لشاهين والتي وصلت إلى حد اتهامه بالسطو على كتبه وادِّعاء ملكيتها فيما يعدُّ سرقة علمية مكتملة الأركان مع سبق الإصرار يجعلنا نقول من باب الاحتمال وليس من باب الاتهام: أليس من المحتمل أن يكون شاهين قد دفعته شهوة الانتقام من بن نبي إلى كتابة كتاب “العفن” ونسبته إلى بن نبي؟

ومما يقوي هذا الاحتمال هو أن شخصية بن نبي في كتاب “العفن” –كما يقول بعض النقاد- شخصية ثائرة، رافضة للكل ولعل شاهين قد تعمَّد ذلك من أجل أن يُظهر بن نبي بأنه خصمٌ للثوريين وللوطنيين والإسلاميين، وهذا من شأنه أن يؤلب الجميع عليه ويزيل عنه على الأقل تلك الهالة والمهابة التي اكتسبهما بسبب نبوغه المتميز وعبقريته الفذة. لم تُطلعنا الأخبار بأن شاهين قد فعل هذا، ولكن يبقى ما قلته بشأنه حيال ردة فعله من قرار بن نبي الاستغناءَ عنه احتمالا قويا وراجحا.

أما المحامي عمر كامل مسقاوي فلم يؤثر عنه أنه خان وصيَّة أستاذه بن نبي أو أنه تكلّف أو تصرّف في كتبه بطريقة أو بأخرى، لقد كان على نقيض ذلك تماما، أمينا في النقل، يراجع ما يكتب حينما يأتيه تنبيهٌ من هنا وهناك، كما حدث حينما أعاد النظر فيما كتبه عن “مذكرات شاهد القرن” الخاصة بكتاب “العفن” بعد أن نشرتها ابنة مالك بن نبي رحمة بن نبي واعترافه بأنه لم يطّلع عليها، فهذا كله ينفي التهمة عن مسقاوي بكتابة كتاب “العفن” أو جزء منه ونسبته إلى بن نبي.

مما يقوي هذا الاحتمال هو أن شخصية بن نبي في كتاب “العفن” –كما يقول بعض النقاد- شخصية ثائرة، رافضة للكل ولعل شاهين قد تعمَّد ذلك من أجل أن يُظهر بن نبي بأنه خصمٌ للثوريين وللوطنيين والإسلاميين، وهذا من شأنه أن يؤلب الجميع عليه ويزيل عنه على الأقل تلك الهالة والمهابة التي اكتسبهما بسبب نبوغه المتميز وعبقريته الفذة.

هناك طرفٌ ثالث محتمل متهم في القضية وهم خصوم بن نبي الذين تحدث عنهم في كتاب “العفن” والذين لم يتردَّد في وصفهم بـ”الخونة” الذين خانوا الوطن وخانوا التاريخ، فمن المحتمل أن يكون هؤلاء كلهم أو جلهم أو بعضهم وراء إثارة حملة التشكيك في نسبة كتاب “العفن” إلى بن نبي حتى يصرفوا الناس عنه وخاصة أن بن نبي فضحهم وعرى صفحتهم، ويبقى هذا مجرد احتمالا لا يرقى إلى الاتهام لأن القاعدة القانونية أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.

قرأتُ منذ مدة مقالا لمعمّر جبار في جريدة جزائرية بعنوان: “مالك بن نبي وصحة كتاب العفن”، ولعل من نقاط القوة في هذا المقال ما تضمنته هذه العبارة:” وبين يدي الآن “دفاتر مالك بن نبي”، وهي تشبه كثيرا “العفن” في ذكر الأسماء، والأماكن، ووصف الصراع بالتفصيل، ورسم الخيانة ، ولم يقل أحد – فيما نعلم- أن دفاتر بن نبي لا وجود لها، رغم أن الأسماء تم استبدالها بالرموز. ولسنا ندري إلى حد الآن، هل بن نبي هو الذي استعمل الرموز عوض الأسماء؟ أم الجزائري الذي قُدِّمت له “الدفاتر” وتولى نشرها؟ وفي هذه الحالة يكون من غير اللائق التصرف في تراث بن نبي بهذا الشكل المشين”. ورغم إشادتي بما أورده الكاتب في هذه العبارة إلا أن هناك أمرا آخر على قدر كبير من الأهمية يتجاوز إشكالية الأسماء والرموز، وهو الاحتمال بأن يكون العفن هو نفسه “دفتر مالك بن نبي” ولكن أضيف إليها أو حُذف منها أو أعيدت صياغتها من شخصية تبقى في طيِّ الكتمان إلى أن تُكتشف حقيقتها في يوم من الأيام.

هناك من رجَّح فرضية عدم صحّة نسبة كتاب “العفن” إلى مالك بن نبي ولا يملك من دليلا على ذلك إلا الحدّة والشدّة والثورية الزائدة التي ظهر بها بن نبي في هذا الكتاب والتي تخالف شخصيته الهادئة وطبيعته المسالمة. ليس لهذه الفرضية في نظري اعتبارٌ لأن الحدة والشدة والثورية والعنفوية والعنفوانية إنما هي  مظهرٌ من مظاهر تقلب المزاج تبعا لتقلب الأحداث، تقلبٌ للمزاج في الجانب الإيجابي وليس السلبي وهذا أمرٌ طبيعي يتعرض له كل صاحب فكرة حينما يحس بأن هناك من يتربص به ويسعى لإجهاض فكرته فيدافع عنها بكل ما يملك وبلهجة شديدة تعبر عن المهجة المجلجلة.

ويتفق معي معمر جبار في مقاله سالف الذكر في هذه النقطة فيقول :”.. وفي “العفن”، تتطرق لمرحلة النضج، والكاتب، والخيانات، والصراعات، ونقده لكافة الأطراف الوطنية منها والدولية. لذلك اتسم “العفن”، بالشراسة، والقوة، وذكر الأسماء والأماكن والمواقف، مما جعل هذه الأسماء أو الموالين لها يقابلونه بنفس القسوة وزيادة أحيانا .ولهذا السبب كان “العفن” عنيفا جدا مقارنة بكتبه التي سبقتها أو التي تلتها، لأنه يتحدث عن مرحلة النضج من حياته، وكلها صراعاتٌ فكرية، بل وصلت إلى التهديد” .

لا يمكن الفصل في صحة نِسبة كتاب “العفن” من عدمها إلا بمراجعة تلاميذ مالك بن نبي ومراجعة من تخصصوا في فكره فعرفوا منه ما جهلناه وأدركوا منه ما عجزنا عن إدراكه ففوق كل ذي علم عليم، وأهيب هنا بأستاذنا عمار طالبي أن يدلي بدلوه في هذا الموضوع الشائك لينير جوانب غفلنا عنها ويبيِّن حقائق لم نوفق إليها، فالرجل عاصر بن نبي وكتب عنه وهو مع غيره من المتخصصين أولى منا بحسم هذا الخلاف وتمييز الخطأ من الصواب، كما أهيب بعائلة بن نبي أن تميط اللثام عن هذا الموضوع بما تملك من وثائق وحقائق وأن يساعدها في ذلك الباحثون المتخصصون والمهتمون بتراث بن نبي. أعتقد جازما أنه حينما يتحدث هؤلاء سأصمت ويصمت الجميع وسأقول لنفسي: “طلع الصباح فأطفئ القنديلا”.

مقالات ذات صلة