-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

وأن تصوموا خير لكم.. نظرات في حديث الصيام

محمد بوالروايح
  • 4139
  • 0
وأن تصوموا خير لكم.. نظرات في حديث الصيام

في الحديث النبوي، أن الصوم جنة. ولفظ الجنة، في لغة العرب، يحمل كل معاني الحماية والوقاية مما يفسد الصوم. وهو ما ورد ذكره في تكملة الحديث: “فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها”.

قليل من الناس من يمتثل لهذه التوجيهات والتنبيهات النبوية، لأنها تحتاج إلى قوة إيمان وقوة عزيمة، وخاصة أن الطبع الإنساني غلاب، والشهوات كالسيل الجارف الذي يجرف في طريقه كل شيء. فمَن مِن الناس -إلا من رحم ربك- يتحكم في أعصابه ويكظم غيظه ويلجم نفسه، حينما يستبد به الغضب؟ ومن من الناس -إلا من رحم ربك- يصون نفسه عما يدنسها ويفسد فطرتها؟ ومن من الناس -إلا من رحم ربك- يستشعر الحكمة من الصيام ويستحضر الخوف من الرحمن، فيكون في خلوته كجلوته ويصوم تعبدا لله، وليس رياء يظهره أمام الناس، فإذا خلا بمحارم الله انتهكها. إن هذه الصفات لا تتحقق إلا في مؤمن عرف ما بينه وبين الله، وقدره حق قدره، وسمت نفسه وسلمت فطرته.. إن الصيام لا يكون جنة إلا إذا اجتمعت في الصائم الأخلاق الإيمانية التي ذكرها الحديث النبوي.

إن الصيام لله كما جاء في الحديث: “والصوم لي وأنا أجزي به”، ولا يتحقق هذا الفضل إلا من نفس عالية الهمة، ماضية الشكيمة، لا تلهيها الشهوات ولا تغرها زينة الحياة الدنيا، لأنها تتوق إلى ما عند الله.. وما عند الله خير وأبقى.

إن كثيرا من الصائمين لا يكمل يومه ولا يأوي إلى بيته إلا وهو مثقل بالسيئات، يأوي إلى بيته وقد سب هذا وشتم هذا وضرب هذا، ثم يقف في الصلاة خاشعا متذللا، كأن لم يفعل شيئا، وقد اطلع الله عليه وعلم ما جرح بالنهار، ويضرب بصيامه عرض الحائط، فلا يكون له منه كما جاء في الحديث إلا الجوع والعطش. إن أسواقنا قد تحولت إلى ميدان للملاكمة والخصومة ورفع الأصوات، فقلما تجد فيها ما يسر النفس. فأنى لصائمين هذا ديدنهم في رمضان أن يتقبل الله منهم صيامهم.. وأنى لهؤلاء أن يدركوا الرحمات والنفحات التي أودعها الله سبحانه وتعالى في شهر الصيام، شهر الله وشهر القرآن.

لسنا ندعي العصمة، فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، ولسنا ندعي الملائكية، فهذا مقام نوراني لا يرقى إليه بشر، ولسنا ندعي المثالية، فالمثالية صفة مطلقة لا تتحقق في نفس إنسانية تتنازعها الأهواء، ولكن ليس معنى ذلك أن يطلق الإنسان العنان لنفسه تخوض في الموبقات كما تشاء ثم تسارع إلى تبرير ذلك بأن النفس أمارة بالسوء، وبأن الإنسان خلق ضعيفا. وليس معنى ذلك أيضا أن يتحول الإنسان إلى شيطان، يتعدى حدود الله ولا يقيم وزنا لما شرعه، فيجيز لنفسه كل خسيس من الأقوال وقبيح من الأفعال، بل ربما تحول إلى وحش مفترس لا يرعى للنفس حرمة، ولا يعطي الأعراض قيمة، لا يردعه القرآن، ولا يرتدع إلا بسياط السلطان تلهب ظهره.

لقد تحول الصوم عند بعض الصائمين إلى لجة، غرقوا فيها إلى أذقانهم، ألجمتهم وحالت بينهم وبين الجزاء الأوفى، الذي ينتظرهم وهو الدخول من باب الريان، كما جاء في الحديث: “إن في الجنة بابا يقال له الريان لا يدخل منه إلا الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد”.

من منا- إلا من سفه نفسه- لا يحب أن ينال هذا الفضل، ويكون ممن يدخل من باب الريان؟ ومن من العقلاء يبيع آخرته بدنياه ويؤثر شهوته على ما وعده به ربه؟ إن الله- سبحانه وتعالى- لم يشرع الصوم ليكون عنتا يرهق به النفوس، إنه- سبحانه وتعالى- شرع الصوم لكي يسمو بنفس المؤمن، ولكي يقرب عبده من حضرته ويسبغ عليه شيئا من شآبيبه ورحماته.. ومن منا لا يقبل هذا العطاء الإلهي، ويرغب عنه ويبيعه بعرض من الدنيا قليل؟

إن الصوم لا يتطرق إليه الرياء فعلا لا قولا، فليس الأمر على إطلاقه، كما يدعي كثير من الناس، وقد فصل ابن حجر العسقلاني- رحمه الله- في هذا بقوله: “إن الرياء يحصل مرة بالقول وأخرى بالفعل، وهذا الثاني لا يدخل الصوم، وأما الأول فقد يدخل الصوم، كمن يتبجح بخبره أنه صائم، فهو من هذه الحيثية يدخله الرياء”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!