-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
أقواس

وداعا‭ ‬دكتور‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬ركيبي‮.‬‭.. ‬وداعا

أمين الزاوي
  • 6607
  • 1
وداعا‭ ‬دكتور‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬ركيبي‮.‬‭.. ‬وداعا

‭..‬‮ ‬وإذ‭ ‬جاءنا‭ ‬النبأ‭ ‬الفاجعة‭: ‬رحل‭ ‬الدكتور‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬ركيبي‭. ‬جاءنا‭ ‬الخبر‮ ‬وما‭ ‬كنا‭ ‬ننتظر‮ ‬وما‭ ‬كنا‭ ‬نتوقع‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬كنا‭ ‬ننتظر‭ ‬تكريمه‭ ‬بدلا‭ ‬عن‭ ‬نعيه‭.‬

  • أسرعت إلى حيث منزله الذي اهتديت إليه عن طريق الأديبين محمد الصالح حرز الله وعبد العالي رزاقي. دخلت هذا البيت، لأول مرة أدخل بيت الدكتور عبد الله ركيبي. وجدت مجموعة من الأدباء والكتاب قد سبقوني إليه: الدكتور أبوالقاسم سعد الله، الشاعر عبد القادر السائحي، القاص‭ ‬مصطفى‭ ‬فاسي،‭ ‬الدكتور‭ ‬عباس‭… ‬ثم‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬امتلأت‭ ‬الغرفة‮ ‬الصغيرة‮ ‬البسيطة‭ ‬المتوجة‭ ‬بإطار‭ ‬يحتوي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬شهاداته‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬امتلأت‭ ‬بالأدباء‮ ‬والجامعيين‮ ‬والصحافيين‭.‬
  • من‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬الدكتور‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬ركيبي‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬معنى‭ ‬بساطة‭ ‬المثقف‮ ‬وتعفف‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬حيث‭ ‬تنخر‭ ‬الخيانة‭ ‬المثقفين‮ ‬ويأكلهم‭ ‬نهم‭ ‬البائد‮ ‬وبريق‭ ‬الزائل‭.‬
  • في‭ ‬وهران‭ ‬عرفت‭ ‬الدكتور‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬ركيبي،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬العام‭ ‬1978‮.‬
  • هذا الصباح كلمني السيد عبد المجيد أمير، مدير المحطة الجهوية بوهران، قائلا، إن الدكتور عبد الله ركيبي سينتقل من العاصمة إلى وهران لتسجيل بعض لقاءات مع الكتاب الجدد، أي الناشئة، وأخبرني بأنني سأكون واحدا من ضيوف حصة “أقلام على الطريق”” التي كان يعدها ويقدمها. دارت بي الأرض سبع دورات، وتساءلت في غمرة الفرح وعصف الخوف: أحقيقة سأكون ضيف الدكتور عبد الله ركيبي؟ “سأخرج” في التليفزيون إلى جانب الدكتور ركيبي!! هذه دوخة النجاح. أنا الذي لم يكن وقتها قد نشر سوى بعض القصص في بعض المجلات والصحف وقُرِئتْ له بعض النصوص على‭ ‬أمواج‭ ‬بعض‭ ‬البرامج‭ ‬الإذاعية‭ ‬الوطنية‮ ‬والمغربية‭ ‬مثل‭: ‬أدب‭ ‬الناشئين‮ ‬وناشئة‭ ‬الأب‭.‬
  • أن تكون ضيفا على الدكتور عبد الله ركيبي في حصة تليفزيونية معنى ذلك أن طريقا يفتح لك. باب السماء تفتح لك. هكذا أحسست. وقضيت أياما في انتظار الموعد غارقا في خوف وترقب وأنا أرتب وأحفظ بعض الجمل التي علي أن أقولها “في التليفزيون”!!
  • أول مرة رأيت فيها الدكتور عبد الله ركيبي كان ذلك قبل ساعات من بداية التسجيل التليفزيوني، تسجيل أعيد مرتين أو ثلاثة، وفي كل إعادة كان الدكتور ركيبي هادئا، كبيرا مستسلما لقدر تقنيي التليفزيون الذين لا يرحمون ولا يفرقون بين تسجيل أغنية وتسجيل حصة يقدمها مثقف أديب بحجم الدكتور عبد الله ركيبي. كان الدكتور الركيبي بسماحته وجهه وهدوئه وبساطته قادرا على أن يجعلك تتفوق على الخوف إن قليلا أو كثيرا. ونحن في الأستوديو، قلقا نظرت إليه في جلسته الكنفشيوسية، جلسة الحكيم، فهرب الخوف مني. كان قادرا أن يجعل مني أنا اللاشئ بعض‭ ‬الشيء‭ ‬‮”‬في‭ ‬التليفزيون‮”‬‭!! ‬
  • الآن وأنا أستعيد رحلته إلى وهران باحثا عن “كتّاب” لا وجود لهم، من أمثالي، ليعطيهم وجودا من وجوده الكبير، أقول كم كان الدكتور عبد الله ركيبي شجرة رحيمة ومثمرة استظل بها جيلنا من الأدباء.
  • أشهد أن برنامجه “أقلام على الطريق” الذي كان البداية الأولى لتجربة الحصص الأدبية التلفزيونية في بلادنا، كان طريقنا إلى الظهور وبداية الاعتراف، خاصة نحن الذين كنا في المدن الداخلية: عمار بلحسن وربيعة جلطي والحبيب السائح وعامر مخلوف وبلقاسم بن عبد الله وعبد الله‭ ‬طموح‮ ‬وعمار‭ ‬يزلي‮ ‬ومحمد‭ ‬مفلاح‮ ‬ومحمد‭ ‬حيدار‮ ‬وعبد‭ ‬الملك‭ ‬إبراهيمي‮ ‬وعبد‭ ‬القادر‭ ‬زيتوني‭ ‬آخرون‭… ‬بعضهم‭ ‬قاوم‭ ‬النسيان‭ ‬فتكرس‭ ‬لاحقا‭ ‬ككاتب‮ ‬وبعضهم‭ ‬بلعه‭ ‬النسيان‭.‬
  • وفي دمشق، حيث كنت أعد شهادتي الماجستير والدكتوراه، عرفت الدكتور عبد الله ركيبي ملحقا ثقافيا لدى السفارة الجزائرية، لكنه كان أكبر من سفير، كان سفيرا ليس فوق العادة إنما على غير العادة!! في فترة زمنية وجيزة استطاع الدكتور ركيبي أن يكون محورا من محاور المجتمع الثقافي والأدبي والإعلامي السوري، إذ استقبل الدكتور ركيبي بكثير من الترحيب. الجميع كان يقدره ويستمع إليه باحترام في الجامعة كما في اتحاد الكتاب العرب، واتحاد الكتاب الفلسطينيين، يسار المثقفين كما قومييهم كما يمينييهم، كان اسمه كبيرا، كان نشطا يحاضر ويسمع صوت الجزائر الثقافي والجامعي وقد شارك في لجان مناقشة كثير من رسائل الدكتوراه والماجستير للطلبة الجزائريين المنتسبين إلى جامعتي دمشق وحلب وخاصة أولئك الذين ارتبطت بحوثهم بالأدب والثقافة في المغرب العربي.
  • كان الدكتور عبد الله ركيبي عروبيا فكرا وسياسة، وأذكر أنه كان عضو لجنة مناقشة أطروحتي للماجستير التي قدمتها بجامعة دمشق حول موضوع “الرواية والأيديولوجيا الوطنية: دراسة في الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية” وكان صارما في المناقشة حد القسوة ربما، أو هكذا شعرت في تلك اللحظات وأنا استمع إلى نقده، في تلك الجلسة العلمية اختلفنا وبشكل واضح حول موقف كاتب ياسين من اللغة الدارجة التي تبنّاها لغة لمسرحه بديلا عن العربية الفصحى وعن الفرنسية التي كان سيدها كما تجلى ذلك في أعماله الروائية والشعرية والمسرحية المنشورة كـ”نجمة” أو “مناجاة” أو “الرجل ذو النعل المطاطي” أو “المضلع المرصع بالنجوم” أو “الأجداد يزدادون ضراوة” وغيرها، ففي الوقت الذي كنت أدافع فيه عن إبداعية وعبقرية اللغة الشعبية الدارجة في المسرح عند كاتب ياسين كان الدكتور عبد الله ركيبي من أصحاب الرأي المدافع عن‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الفصيحة‭.‬
  • لكن بعد المناقشة، خارج الجلسة العلمية، كان الدكتور عبد الله ركيبي المثقف الرقيق الناعم، يعاملني بكل أبوة ثقافية، وأذكر أنني أرسلت له رسالة على صفحات واحدة من الجرائد الوطنية، حَمَّلتُها مشاعر الاحترام والتقدير التي أكنّها لهذا المثقف النبيل وحين قرأها هاتفني‭ ‬من‭ ‬ألمانيا‭ ‬أين‭ ‬كان‭ ‬يقيم‭ ‬مع‭ ‬أسرة‭ ‬ابنه‭ ‬شاكرا‭ ‬متحضرا‭ ‬الخطاب‭ ‬كعادته‮ ‬ولكني‭ ‬شعرت‭ ‬بحشرجة‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬صوته‭ ‬الدافئ‮ ‬فأجهشتُ‮ ‬بالبكاء‭ ‬فور‭ ‬أن‭ ‬أنهينا‭ ‬المكالمة‭.‬‮  ‬
  • بعد شخصية المجاهد والمناضل عبد الحميد مهري الذي أقام في دمشق أيام الثورة والتي تركت أثرا سياسيا ونضاليا بارزا في الأوساط الطلابية الجزائرية والمغاربية وبعد الشاعر المجاهد أبو القاسم خمار الذي حقق صوتا شعريا متميزا للثورة الجزائرية في هذه الديار، كان ذلك سنوات الثورة، بعدهما ومع الجزائر المستقلة جاءت شخصيتان دبلوماسيتان أساسيتان سجلتا اختراقا في الدبلوماسية التقليدية، فكانتا صوتا ثقافيا وإعلاميا جزائريا على غير العادة إنهما: الأستاذ عبد القادر بن صالح الرئيس الحالي لمجلس الأمة حين كان مديرا للمركز الجزائري للإعلام‮ ‬والثقافة‭ ‬ببيروت‭ ‬‮(‬لبنان‮)‬‭. ‬تميزت‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬‮(‬1970‮ ‬‭-‬‮ ‬1974‮) ‬بإصداره‭ ‬مجلة‭ ‬‮”‬الجزائر‭: ‬أحداث‮ ‬ووثائق‮” ‬والدكتور‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬ركيبي‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬ملحقا‭ ‬ثقافيا‭ ‬بسفارتنا‭ ‬بدمشق‭. ‬
  • لا‭ ‬أحد‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يقفز‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأسماء‭ ‬كلما‭ ‬جاء‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬العلاقة‭ ‬الثقافية‮ ‬والإعلامية‭ ‬المعاصرة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الجزائر‮ ‬وبلاد‭ ‬الشام‭.‬
  • ‭….‬
  • اليوم واقفا أمام جثمان الدكتور عبد الله ركيبي الممدد على سرير بسيط، النائم في رقدة دائمة، بوجه عليه لحية خفيفة وابتسامة وشارب كثيف قليلا، نظرت إليه رافعا يدي لقراءة الفاتحة على روحه الكريمة وتذكرت ما رواه لي أحد أصدقائه المقربين إليه وقلت له في خشوع:
  • … ها أنت ترحل أيها المثقف الأديب المتحضر بعد مسيرة طويلة في عشق الأدب والثقافة والكتابة، ها أنت ترحل وأنت الذي ابتدأت مسارك الأدبي بمسرحية “مصرع الطغاة” التي نشرتها بتونس التي جئتها مُهَرَّبا من قبل الثورة الجزائرية بعد أن عرفتك أسوار سجن أفلو، جئت تونس حاملا‭ ‬حلما‭ ‬كبيرا‭ ‬بين‭ ‬دفتي‭ ‬كتاب‭ ‬صغير‭ ‬عنوانه‭ ‬‮”‬مصرع‭ ‬الطغاة‮” ‬وكنت‮ ‬وأصدقاؤك‭ ‬المتطوعون‭ ‬تدورون‭ ‬على‭ ‬زبائن‭ ‬مقاهي‭ ‬تونس‭ ‬لبيع‭ ‬بعض‭ ‬النسخ‭ ‬عله‭ ‬يسد‭ ‬بعض‭ ‬رمق‮ ‬وقد‭ ‬كادت‭ ‬أن‭ ‬تضيق‭ ‬بك‭ ‬السبل‭.‬
  • ها‭ ‬أنت‭ ‬يا‭ ‬أستاذي‭ ‬الجليل‭ ‬ترحل‭.. ‬يا‭ ‬مبتدئا‭ ‬الكتابة‭ ‬بحلم‭ ‬‮”‬مصرع‭ ‬الطغاة‮”‬،‭ ‬ترحل‮ ‬و‮”‬الطغاة‮”‬‭ ‬الجدد‭ ‬يسقطون‭ ‬واحدا‭ ‬واحدا‭.‬
  • قرأت‭ ‬الفاتحة‭ ‬ثانية‭ ‬على‭ ‬روحه،‭ ‬نظرت‭ ‬إليه‭ ‬كان‭ ‬مبتسما‭ ‬ربما‭ ‬لأن‭ ‬حلمه‭ ‬في‭ ‬مصرع‭ ‬الطغاة‭ ‬بدأ‭ ‬يتحقق،‭ ‬طغاة‭ ‬في‭ ‬ثوب‭ ‬المعاصرة‭. ‬
  • وداعا‭ ‬أستاذي‭ ‬الدكتور‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬ركيبي‭ ‬وداعا‭.‬
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • بدون اسم

    احمد لماذا نكبر فنشيخ ونصبح شيعا لا تعرف بعضا من بعض احب نفسي ترضى بشيء هو لك احبه ل اعرف هو مِن مَن افتقده في ابي الانتقام تعرفه عند الحلم يصبح الظلام يطفئ النورعند الغروب