-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

وسائل التواصل الاجتماعي… إلى أين؟

وسائل التواصل الاجتماعي… إلى أين؟

“لماذا كانت السنوات العشر الماضية من الحياة الأمريكية غبيّة بشكل استثنائي؟ إنها ليست مجرّد مرحلة”. هذا عنوان دراسة نُشرت إلكترونيا في المجلة الأمريكية العريقة ” ذي أتلنتيك” The Atlantic يوم 11 أبريل الجاري، وستنشر ورقيا خلال شهر ماي القادم. وكاتب هذا المقال هو الأستاذ الأمريكي جوناثان هايدت Jonathan Haidt المختص في علم النفس.

العالَم فَقدَ ذكاءه الجماعي

وأشهر مؤلفات هذا الباحث صدر عام 2012 في علم النفس الأخلاقي بعنوان “العقل السويّ”  The Righteous mind الذي كان آنذاك أكثر الكتب مبيعًا وشعبيةً. وقد تساءل فيه عن انقسام الطيبين من الناس بسبب السياسة والدين، وحاول بلوغ تقارب بين اليسار واليمين. ومن المعلوم أن صيت جوناثان هايدت ذاع عند كثير من شرائح المجتمع خلال المدة الأخيرة حين تناول في عدة منشورات موضوع وسائل التواصل الاجتماعي وانتقدها بشدة. وأعلن عن أنها تدمّر المجتمع بعد أن كانت ذات فائدة جمة. ذلك ما وصلنا إليه خلال السنوات العشر الماضية لاسيما في الدول المتقدمة. وقد أثارت آراؤه ضجة كبيرة في الولايات المتحدة.

وجوناثان هايدت لا ينتقد الإنترنت في حدّ ذاتها، بل يوجّه اللوم للنموذج التجاري من النمط الذي أطلقه فيسبوك حيث لا يكون فيه المستخدِم هو “المستهلك بل المنتِج”. ثم يتم التلاعب بهذا المنتج لإنشاء محتوى يُستخدم لجذب المستخدمين الآخرين. ويكتب هايدت : “تغيّر كل شيء في عام 2009، عندما أتاح فيسبوك إمكانية ‘الإعجاب’ بالمنشورات، وفي نفس العام قدم تويتر خدمة أكثر قوة، وهي زرّ ‘إعادة التغريد’ الذي يسمح للمستخدمين بتأييد منشور أثناء تقاسمه مع الآخرين”. هذا هو النمط الذي يعتقد جوناثان هايدت أنه يجعلنا أغبياء بشكل جماعي، وهو يمثل انتكاسة للتعاون بين البشر.

ولذلك كله سارعت صحيفة “لكسبرس” L’Express الفرنسية إلى استجوبه مؤخرا حول هذا الموضوع الخطير، فأكد أن شبكات التواصل الاجتماعي تفكّك المجتمعات وتهدد الديمقراطية الليبرالية. وتناول في هذا الاستجواب الأسس الأخلاقية للخيارات السياسية، وحلل العواقب الوخيمة للتوسع المذهل لشبكات التواصل الاجتماعي على مدى السنوات العشر الماضية، مشيرا إلى أن المستقبل القريب لا يبشر بالخير.

وأوضح جوناثان هايدت أنه لا يصف أحدا بالغباء لأن الواقع يثبت أن الناس في مجتمعاتنا أصبحوا أكثر تعلّما وذكاءً على المستوى الفردي، بل إن هايدت يركز اهتمامه على المؤسسات وعلاقتها بالأخلاق الجماعية. ويستخلص من دراسته للأوضاع القائمة أن شيئًا ما حدث في أوائل العقد الأول من القرن الحالي حيث “أصبحت مؤسساتنا غبية” خاصة تلك التي تنتج المعرفة. لقد بدأ ذلك في الجامعات، ثم انتشرت الظاهرة في الصحافة والطب وفي العالم المهني إلى حدّ يعتقد فيه الكاتب أنه نَشأ مؤخرا غباءٌ بنيويٌ إذ هناك خطأ ما في الطريقة التي نعالج بها المعلومات.

وعندما سُئل الأستاذ هايدت عن الاختلاف في الرأي، قال بأنه مدافع شرس عن تنوع الآراء، وأنه يؤمن بمبدأ “من لا يعرف سوى موقفه من قضية معينة فهو لا يعرف إلا القليل عنها. ثم يضيف ”أنا أستاذ وأحب الجامعة، وما أفضله داخل الجامعة هو المناظرات والنقاشات. كانت هذه المناقشات مفعمة بالحيوية والنشاط حتى منتصف سنوات 2010. ولكن اليوم، يسود الخوف في العالم الأكاديمي. لقد فقد العالَم الذي أحببته ذكاءه الجماعي. وأنا أحاول منذ عام 2014 معرفة سبب ذلك”. ثم يؤكد أن تنوع وجهات النظر ليس أمرا ضروريا للديمقراطية فحسب بل أيضًا للتقدم العلمي. غير أن هذا لا يتأتى إلا إذا كانت هناك مؤسسات تسمح بتوجيه هذه الاختلافات من أجل إنتاج حقائق مشتركة: الجامعة والنظام القضائي والصحافة كلها تقوم على هذا الاختلاف… لكننا اليوم لا نشهد ذلك بل نشهد تفككًا حقيقيًا في محيطنا.

أمر مأساوي

وما هي الحلول التي يراها جوناثان هايدت لهذا الغباء العام؟ يجيب أن هناك ثلاثة عناصر ينبغي التفطن إليها، وهي : تعزيز المؤسسات الديمقراطية، وإعداد الجيل القادم، وإصلاح وسائل التواصل الاجتماعي. ثم سئل عن شدة انتقاده لوسائل التواصل الاجتماعي فردّ أن شبكات التواصل الاجتماعي أغرقت جيلا كاملا في الاكتئاب والقلق، إذ أثبتت الأبحاث تصاعد الاكتئاب بين المراهقين الأمريكيين في أوائل عام 2010. وهذا التاريخ يتوافق مع ظهور شبكات التواصل الاجتماعي التي ساهمت بشكل كبير في بروز هذه الظاهرة.

ويضيف هايدت إنه لأمر مأساوي أن يقضي أطفالنا الكثير من الوقت إما مرتبطين بشبكات التواصل الاجتماعي أو تحت مراقبة أوليائهم الذين يخشون السماح لهم باللعب على انفراد… بينما يُعدّ اللعب بحرية (وبدون إشراف أحدٍ) هو الطريقة الطبيعية لتعليم الصغار المهارات التي يحتاجون إليها عند بلوغهم سنّ الرشد. وهذا يشمل القدرة على التعاون، ووضع بعض القواعد واحترامها، وحل الخلافات، وقبول الهزيمة إذا ما حلّت بنا. وبدون ذلك سيؤدي الوضع تدريجيا إلى ظهور عالم تسوده النزاعات. ويلاحظ الباحث أنه مع تزايد قدرات الذكاء الاصطناعي في تقليد البشر، سيتزايد هذا النوع من المشاكل إذ سيتيح الذكاء الاصطناعي قريبًا نقل معلومات خاطئة تبدو ذات مصداقية لا غبار عليها.

ومن جهة أخرى، يدرك جوناثان هايدت أننا نعلم جميعًا بأن وسائل التواصل الاجتماعي تؤثر على مزاجنا، وقد تم نشر مئات المقالات العلمية حول كيفية تقويض تويتر وفيسبوك للديمقراطية من خلال نشر الأكاذيب والمغالطات. ويرى أن المشكل الأساسي هو أننا لا نستطيع حتى فهم الشخص الذي يجاورنا فنحن في حيرة من أمرنا… إذ صرنا غير قادرين على التحدث بنفس اللغة أو المنطق.

وما فتئ الأستاذ هايدت يكرّر أن التواصل بين الناس مفيد. وقد أتاحت رسائل البريد الإلكتروني التواصل مجانا على نطاق واسع. وكذلك الأمر بالنسبة للإنترنت والمدوَّنات و”الواتساب” و”الزوم” التي تُعتبر من الابتكارات الجميلة والمثيرة للإعجاب لأنها تعزز سبل التبادلات بين الناس. غير أنه حدثت قطيعة خطيرة عندما أقامت منصات، مثل فيسبوك وتويتر اتصالا يتم أمام الجمهور، وذلك بهدف الحصول على “الإعجابات”، وكذا أكبر عدد ممكن من المشاركات.

ولعل ما يؤكد بعض أو جلّ ما جاء على لسان عالم النفس جوناثان هايدت أن متتبعين في الولايات المتحدة يرون أن فئة من المولعين بشبكات التواصل الاجتماعي قد شرعوا في حذف تطبيقات هذه الشبكات من هواتفهم للنأي بأنفسهم عن نمط الحياة الذي فُرض عليهم منذ نحو 10 سنوات. ومن دلائل ذلك -حسب شبكة بي بي سي- أن عدد الهواتف “الغبية” التي بيعت في العالم خلال عام 2021 بلغ مليار هاتف، بيننا لم يتجاوز هذا الرقم 400 مليون جهاز عام 2019. فإلى أين نحن ذاهبون؟!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!