-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

وقفة نقدية مع كتاب “لا تحزن”

محمد بوالروايح
  • 3972
  • 0
وقفة نقدية مع كتاب “لا تحزن”

ليس هناك كتابٌ حقق شهرة خرافية ونسبة مبيعات خيالية ككتاب “لا تحزن” لعائض القرني، فهو الكتاب الذي لا تخلو منه مكتبة من المكتبات العامة والخاصّة ولا يملّ القارئ من قراءته لأن أكثر مادته ببساطة هي نصوص التنزيل ونصوص السنة المطهرة، وهي نصوص معصومة، يجد فيها الضال ما يرشده إلى سبل الاستقامة، ويجد فيها العليل ما يشفي الغليل، ويجد فيها الشارد عن الفطرة ما يرده إلى الجادة.

قرأت كتاب “لا تحزن”، لعائض القرني أكثر من مرة وأعجبت به أيما إعجاب لأنني وجدت فيه ضالتي وراحتي النفسية لما فيه من مواعظ مؤثرة وقصص معبرة، فقد أغناني الكتاب -كما أغنى كثيرين- عن الرجوع إلى المؤلفات والمصنفات الطويلة التي لا يطيق جمعَ شواردها وفوائدها إلا من أوتي قدرة على الجمع، وأحسب الشيخ عائض القرني واحدا من هؤلاء ولا أزكي على الله أحدا.

تساءلت بعد أن فرغت من قراءتي الأولى لكتاب “لا تحزن” لالقرني عن سرِّ الانتشار الكبير لهذا الكتاب؟ واهتديت بحمد الله وتوفيقه إلى هذا السر وهو أن المؤلِّف لم يجعل من كتابه كتابا فلسفيا أو صوفيا أو سياسيا، تختلف بشأنه الفهوم وتتنازع إزاءه الخصوم، بل جعله كتابا تربويا عمدته ومادته الأساسية –كما أسلفت- آيات التنزيل وكلام البشير النذير وهو ما حقق للقرني ما لم يتحقق لغيره، فعوام الناس -وهم أكثر طلبا للكتاب- لا يميل أغلبهم إلى كتب التأويل، بل يميلون كل الميل إلى نصوص التنزيل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وإلى نصوص السنة وهو كلام من “لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى”، وفي تصرف العوام عصمة لعقولهم من اللوثة العقدية والفكرية التي أصابت كثيرا من المتكلمة الجدد الذين تجد في كلامهم من الوضع المخالِف للشرع ما لا تجده في قصص الوضّاع في زمان الوضع.

إن كتاب “لا تحزن” للقرني بالنظر إليه من الزاوية التربوية هو كتابٌ قيّم فيه من المتعة والقدوة والفوائد الجمة ما لا ينكره عاقل، ولكن بالنظر إليه من الزاوية العلمية فالأمر مختلف تماما، فهو كتاب لا يستجيب لأدنى مواصفات البحث العلمي، ولو أنه عُرض على النقاد من هذه الزاوية لنال مؤلفه ما وسعه من النقد. ليس في هذا افتراء على القرني بل هي الحقيقة التي يعترف بها هو نفسه في مقدمة من مقدمات الكتاب، فمن أمانة القرني أنه قد سبق نقادَه إلى النقد، فأماط اللثام وكشف الإبهام في مقدمة من مقدمات الكتاب عما يعدّه بعض النقاد خروجا عن المألوف في طرائق التأليف وخروجا عن قواعد الكتابة مهما كانت طبيعة المكتوب، سواء كان كتابا تربويا،أم كتابا فلسفيا صوفيا أم كتابا سياسيا أم نوعا آخر مختلفا في مجالات الفنون والعلوم المختلفة.

يقرّ عائض القرني بأن كتابه “لا تحزن” مزيجٌ من النصوص التي جمعها من مصادر مختلفة، وهذا يعني بلغة البحث العلمي أن جهده فيه لا يعدو أن يكون جهد الجامع الذي يكتفي في الغالب بما جمع ولا يكلف نفسه عناء الشرح المطوّل، فغايته منه أن يحقق المراد ويُسعد العباد وخاصة التائهين والشاردين والباحثين عن السعادة بأي ثمن في بضاعة من ضلوا وأضلوا وأسفوا وأسرفوا، من غير التفاتة إلى العقلاء والحكماء منهم ممن سبروا الحياة ونطقوا بالحكمة ووافقوا الفطرة.

يقّر القرني بأنه قد جمع في كتابه “ما يدور في فلك الموضوع من التنزيل، ومن كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم، ومن الأمثلة الشاردة، والقصص المعبرة، والأبيات المؤثرة، وما قاله الحكماء والأطباء والأدباء، وفيه قبس من التجارب الماثلة والبراهين الساطعة، والكلمة الجادة وليس وعظا مجردا، ولا ترفا فكريا ولا طرحا سياسيا، بل هو دعوة ملحة من أجل إسعادك”.

إن كل من يكتب – مهما بلغ من فنيات الكتابة مبلغا عظيما- لا غنى له عن الاستعانة بما كتبه الآخرون ففي ذلك إثراء لموضوعه فقد قيل “من شارك الناس أفكارهم شاركهم عقولهم”، لم يلتزم القرني بهذه “الجماليات” التي أشار إليها، بل ساق في كثير من الأحيان النصوص سوقا من غير شرح مما نعدّه إخلالا بالموضوع وتخليا عن إشباع نهم القارئ ممن لا يفقه النصوص ولا يتذوقها ولا يدرك سر الدرر الكامنة فيها، وليس لهذا الإخلال من جانب القرني إلا تفسيرٌ واحد وهو أن طبيعة تكوينه الدعوي الوعظي لا تسمح له بأن يكون – ولو أراد- شخصية أخرى غير الشخصية الدعوية الوعظية التي كل همّها في الغالب سوق النصوص وعدم الانسياق وراء التفسيرات والتأويلات التي تجعل القارئ يملّ ويميل عنها جملة وتفصيلا.

إن تراثنا الدعوي والتربوي الإسلامي الثري لا يحتاج -إن أحسنا توظيفه- إلى تأييد من الغربيين، وهذا بشهادة هؤلاء الغربيين أنفسهم، فقد اعترف كثيرٌ منهم بأن المنهج التربوي الإسلامي من أفضل المناهج التربوية في تهذيب السلوك وتربية النفس فكيف نرضى نحن المسلمين أن “نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير”؟

لا تثريب على عائض القرني فيما نقله من كلام حكماء الغرب وأساطينه في علوم التربية والتنشئة الأسرية، فنحن نوافقه في بعض ما قاله ونخالفه في البعض الآخر؛ نوافقه في أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، ونخالفه في الإطناب في النقل من كلام الغربيين مما يكرس -بطريقة غير مباشرة- فكرة أننا لا نجد تمكينا وتأصيلا للقيم التربوية التي جاء بها الإسلام في النفوس إلا بإشفاعها بهذه النصوص. إن تراثنا الدعوي والتربوي الإسلامي الثري لا يحتاج -إن أحسنا توظيفه- إلى تأييد من الغربيين، وهذا بشهادة هؤلاء الغربيين أنفسهم، فقد اعترف كثيرٌ منهم بأن المنهج التربوي الإسلامي من أفضل المناهج التربوية في تهذيب السلوك وتربية النفس فكيف نرضى نحن المسلمين أن “نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير”؟

لا نخالف القرني في قوله بأنه لم يجعل للكتاب حواشي تخفيفا عن القارئ وتسهيلا له، لتكون قراءته مستمرة وفكره متصلا، فكثيرٌ من الحواشي التي تضمّنتها الكتب الخوالي من كتب القدامى أربكت القارئ وألبست عليه حتى إن بعضهم خلط بين المتن والحاشية وفي ذلك نوادر كثيرة مضحكة مبكية، ولكننا نخالف القرني في قوله إنه لم ينقل في الكتاب رقم الصفحة ولا الجزء مقتديا بمن سبق في ذلك، ورأى ذلك أنفع وأسهل، وبأنه قد نقل حينا بتصرُّف وحينا بالنص بما فهمه من الكتاب أو المقالة. إن هذا الكلام –بغض النظر عن علو مقام قائله الدعوي- كلامٌ لا يستقيم وهو مرفوض في قواعد التأليف العلمي، فتوثيق المنقول لا غنى عنه، وهو من مقتضيات الأمانة العلمية، فكيف يُقبل من القرني تنازله عن ذلك أو تساهله فيه إشفاقا أو تسهيلا على القارئ؟ وكيف يستسيغ ذو عقل تبريره ذلك اقتداء بمن سبق؟ وفي إشارة القرني إلى النقل بتصرف حينا وبالنص حينا آخر ما يجعله في عداد من يسرف في التصرف مع المنقول حتى يخرجه عن مراده ويلبسه معاني لم يرمها المؤلف، وفي ذلك شيءٌ من التحريف وليٌّ لأعناق النصوص بدعوى “إيصال الفكرة إلى القارئ”.

من أغرب ما جاء في مقدمة إحدى طبعات كتاب “لا تحزن” لعائض القرني وهو يشرح طريقته في تأليف كتابه قوله: “لم أرتّب هذا الكتاب على الأبواب ولا على الفصول، وإنما نوَّعت فيه الطرح، فربما أداخل بين الفقرات، وأنتقل من حديث إلى آخر وأعود للحديث بعد صفحات، ليكون أمتع للقارئ وألذ وأطرف لنظره”. قد نقبل تخلي القرني عن الأبواب والفصول في كتاب “لا تحزن”، وهي طريقة لا غبار عليها ولا تثريب على أصحابها وقد نهجها بعض الكتاب قديما وحديثا، ولكننا لا نقبل ولا نتقبل أن يعمد القرني أو غيره إلى المداخلة بين الفقرات مما يخلُّ بوحدة الموضوع وإطلاق العنان لقلمه للانتقال من موضوع والعودة إليه من أجل “إمتاع القارئ”، فأي متعة يجدها القارئ في نص متداخل يشوبه إخلال ظاهر؟!

أختم هذا المقال بحقيقة مرّة مكرَّسة في واقعنا الفكري والدعوي والعلمي وهي إتِّباع الهوى في مدح من يوافقنا في الرأي والطريقة، والشطط في الحكم على من يخالفنا في الرأي والطريقة، فنسرف ونتكلف في مدح من يوافقنا ولو قال هراءً لا يستحق ذكرا، ونسرف في المقابل في قدح من يخالفنا ولو أبدع وأمتع.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!