الرأي

وُلِدَت السياسةُ على ظهر سفينة نوح…!

أمين الزاوي
  • 6782
  • 22

.. وإذ قالت السماء لنوح: يا نوح إن الطوفان قادم ولن يفلت من غضب الماء من قومك إلا من ركب معك المركب. وكما تروي الكتب السماوية جميعها من توراة وإنجيل وقرآن، أمرت السماء نوحا أن يصنع له ولقومه مركبا بمواصفات معينة ينجيهم من الطوفان. وإذ انتهى العمل في صناعة السفينة، وجاء اليوم أمرت السماء نوحا أن يحمل زوجا من كل جنس حي. وفجأة بدأ الماء يسيل من السماء سيلان السواقي فيغمر الأرض البسيطة وشيئا فشيئا يمتد لسانه إلى الأعالي والتلال، شرع نوح في إركاب المخلوقات زوجا زوجا، أنثى وذكر.

والماء يصعد أكثر والخوف يرتفع أكثر أيضا وقبل أن تقلع سفينة نوح ببعض الدقائق، هرع مخلوق غريب في اتجاه نوح وأخذ يصرخ وقد فقد كل سيطرة على عقله:

يا نوح يا نبي الله خذني معك، أركبني مركبك فأنا هالك إذا ما تركتني لهذا الموج ولهذا الماء العنيف.

التفت نوح إلى المخلوق وهو في هذه الحال من الجنون والهيجان، ثم قال له:

من تكون أيها الصارخ المشتكي؟

فقال المخلوق الذي بدا في هيئة رجل وقد ازداد خوفه ورفع من صوته المبحوح المتوسل درجات:

أنا “الكذب”، أرجوك لا تتركني.

نظر نوح إلى المخلوق و أجابه:

أيها الكذب، أنت لا تتوفر فيك شروط ركوب سفينتي، فأنت لست زوجا، والسماء أمرتني ألا أحمل إلا الأزواج.

حاول الكذب أن يقنع نوحا، لكن هذا الأخير كان صارما، فأمر السماء واضح ولا يمكن المساس به أو تجاوزه.

رجع الكذب حزينا غاضبا متشنجا والسماء تسيل ماء أكثر فأكثر والأرض يبلعها الطوفان قطعة قطعة وقد اقتربت الساعة أو كادت.

وقبل أن يعطي نوح إشارة الإقلاع للمركب وقد أصبح جاهزا لا ينتظر سوى أمر السماء، جاء مخلوق آخر مسرعا وقد بدا هو الآخر في غاية الغضب وقد سكنه الرعب من اقتراب الساعة، ونادى على نوح بأعلى ما في صوته:

يا نوح خذني معك؟

استغرب نوح هذا المخلوق الذي بدا في شكل أنثى وهي ما هي عليه من تشنج وغضب وخوف وتودد وسألها:

من أنت أيتها الغريبة؟

فأجابت المخلوقة التي في شكل أنثى:

أنا “الخيانة” يا سيدي، فالرجاء أن تأخذني معك، فالماء قد وصل الأرض التي أمشي عليها وقد غمر قدمي وهلاكي أصبح مؤكدا.

وكما مع الكذب قال نوح للخيانة:

أنتِ لا تشكلين زوجا، والسماء قد أمرتني أن آخذ زوجا من كل جنس، وليس لي إلا طاعة ما أمِرْتُ به.

حاولت الخيانة بطرق شتى كالتذلل والبكاء والتوسل أن تقنع نوحا في أن يركبها مركبه، لكنها أخفقت، وعادت من حيث أتت وهي تسب وترغي وتزبد، وإذ ابتعد قليلا شاهدت الكذب على بعد أمتار هو الآخر حزينا ومرتعدا وغاضبا فتوجهت إليه بالسؤال وقد عرفته:

لماذا أنت في هذه الحالة يا صديقي؟

مثلك فقد رفض نوح أن يركبني سفينته متحججا بأنه لا يحمل إلا الزوج من كل جنس.

نظرت الخيانة بعين الأنثى المليئة بالإثارة وعلى التو دارت في رأسها فكرة فتوجهت إلى الكذب قائلة:

لماذا لا نتزوج ونؤسس زوجا ونعود إلى نوح فيكون بذلك مضطرا لإركابنا مركبه.

عانق الكذب الخيانة بقوة وقبلها وتزوجا في لمح البصر، وأسرعا في اتجاه نوح وهو يستعد لإعطاء إشارة الانطلاق للمركب، والماء قد وصل الركب أو زاد عليها، ونادياه بصوت واحد:

يا نوح إننا زوج وقد نسيتنا.

لم يجد نوح من مبرر لإقصائهما من مركبه وقد حققا شرط الزوجية فسمح لهما بالركوب فنجيا من الماء والطوفان. وهما على ظهر السفينة وقد أقلعت، بدا زوج الكذب والخيانة في أسعد أيامهما وهما يشاهدان الماء الغاضب من على المركب وقد غمر السهول والمرتفعات والتلال، ثم قمم الجبال، كانا يراقبان منظر الطوفان وهما في حال يشبه “سفر شهل العسل” وقد نجيا من الغرق والفناء.

وعلى ظهر السفينة ناما هنيئين وقبل أن ترسو على شط النجاة كانت الخيانة قد حملت من الكذب وأنجبت له طفلة سمياها: “السياسة”.

وهكذا ولدت “السياسة” من زوج “الكذب” و”الخيانة” على ظهر سفينة نوح وسط الطوفان. ولاتزال “السياسة” وفية، حتى يومنا هذا، لوالديها غاية الوفاء!

هذه الحكاية رواها لي أحد أساتذتي الذين أكن لهم الاحترام الكبير، ونظرا لمدلولاتها الفلسفية رأيت أن أنقلها لكم على طريقتي الخاصة

مقالات ذات صلة