-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ياسين بوسليماني.. قصةُ جهاد علمي مظفّر ومثمر

ياسين بوسليماني.. قصةُ جهاد علمي مظفّر ومثمر

قدِم إلينا نعيُ العالم المبتكر ياسين بوسليماني من أرض الغربة البعيدة، ومع ذلك لم يقو طول المسافة التي بلغت آلاف الأميال على التخفيف من شدة لوعة الفقد التي جرحت قلوبنا كأهل وجيران وأصدقاء، وقرحت عواطفنا ومزقت أكبادنا وألهبتها، وإنما ظل نعيه المؤلم ككل النعايا ماسحا للغبطة، وطاردا للفرح، وباسطا للحزن، وزارعا التأمل في تقلبات الحياة الدنيا التي لا تستمر على حال، وخاصة في قلبيْ والديه الكريمين اللذين رُزِئا في السنوات الأخيرة في فقد اثنين من إخوته الأشقاء في حادثتين متباعدتين ومؤلمتين.

لم يصادف المتحسرون على الفقدان المزعزع والمفاجئ طريقا للمضي فيه بحثا ومراكمة لأسباب التخفيف من وطأة المصيبة الثقيلة والصدمة العنيفة سوى أن الفقيد العزيز الأخ ياسين بوسليماني كان واحدا من الشباب الجزائري المثابرين والطموحين الذين تمكنوا من الارتقاء في سلم كسب المعارف بإرادة صلبة رغم بعض المعاثر، واستطاع تطويع معطيات العلم التقني الحديث النظرية، وإخراجها في مبتكرات حريّة بالإعجاب والدهشة، ودوّن اسمه على صفحة المجد التي تضم الأفذاذ والمتفوقين حتى يبقى خالد الذكر مع فرسان قافلة أهل النجابة والبراعة والتميّز، وفي تشريفه المستحق بعد المكانة العلمية التي بلغها تعظيم لوطنه الجزائر الذي أنجبه، ورعى تعليمه القاعدي في مدارسه وتكوينه الجامعي في مراحله الأولى في إحدى جامعاتها.

تروي مسيرة حياة الفقيد ياسين بوسليماني التي تجاوزت اثنتي وخمسين سنة بقليل في سطورها قصة جهادية مظفرة ومثمرة في سبيل التحكم في العلم التطبيقي ينبغي أن تنقل إلى الأجيال حتى يفكوا شفراتها، ويستخلصوا منها الدروس والعبر، ويستلهموا من حلقاتها ما يساعدهم على المضيّ بعزائم نافذة لتحقيق طموحاتهم في المجال العلمي. وهو لم ينغلق على بادرات تفوّقه، وإنما راح يغذيها ويزيدها شحنا وصقلا، فصلا بعد فصل آخر، بلا توقّف كالمنهم الذي لا يشبع، والمستزيد الذي لا يقنع، متحمِّلا مرارة البُعد عن الوطن والذهاب في غربة طويلة قربت من ربع قرن من الزمن.

من جهة أخرى، كان ياسين بوسليماني رسولا من رسل الجزائر البارزين إلى بلاد الغرب. ولم يكن ارتحاله مقتصرا على ما يملك من تفوّق مبهر وعبقرية خلاقة في الاختراع والابتكار لا تنافس بفضل ما وهبه الله من مادة رمادية خصبة ومنتجة في خلايا دماغه. وإنما زاوج في دواخله بين كفاءاته ومؤهلاته العلمية وتربيته السليمة وخُلقه الكريم. ومثلما كان مثالا في العطاء العلمي، فإنه كان نموذجا في الالتزام الديني والاستقامة والأدب. ولم يكن المخبر العلمي المغلق الذي يشتغل فيه مع زملائه وأفراد فريقه يأخذ منه كل أوقاته، وإنما كان مهموما بمخبر الحياة المفتوح في محيطه القريب بما يجري فيه من ظواهر وأحداث يتفاعل معها عطاء وخدمة، استحسانا ورفضا. وقد علمت أنه كان ينفق مع نفر من زملائه الأساتذة على طلبة العلم القادمين من البلدان الفقيرة، وخاصة الإفريقية، ويمنحون لهم ما يساعدهم على إنجاز مشاريعهم البحثية وإكمال دراساتهم. وكانت عيناه مفتوحتين حتى على بعض شباب وطنه في مدينته باتنة بالتشجيع والتوجيه والمساعدة المادية. وبذلك تمكّن من الجمع بين طرفي رجل العلم وصاحب الوعي الإيجابي والمؤثر الذي يحسن التدبير والتأثير معا. ولم يكن همّه مقتصرا على الغنى المادي الذي يجري خلفه بعض أقرانه في جامعاتنا بأنفاس لاهثة، ولا يفرقون بين الجني الحلال والسبي الحرام للدينار. وضرب صفحا من الانقطاع عن الإغراءات والملذات، ولم يستطع بريق قشرة الحضارة الغربية المادية إغواءه وتجريده من القيم التي تربى عليها، واستمر يتمثلها في اعتزاز.

يعتبر ياسين بوسليماني مثالا للشباب الجزائري المجتهد الذي جمع بين الاستعداد والإرادة، وقرن بين التصميم والمنافحة. وهو خريج المدرسة الأساسية التي لاحقتها انتقادات كثيرة، ورميت بعيوب هي بريئة منها. وبفضل ما اكتسب من زاد في أقسام هذه المدرسة، استطاع أن يجد لنفسه مكانا رحبا بين خريجي مدارس الغرب، وأن يزاحمهم في رحاب ديارهم في ثقة ورباطة جأش.

نبتت شروش عائلة ياسين بوسليماني في تربة الأوراس الأوسط الزكية والممزوجة بمداد الصدق والوفاء. وفرضت عليها الظروف القاسية الهجرة القسرية والتشتت. وحتى وإن لم أكن متيقنا، فإنني أميل إلى الاعتقاد بأن أهله غادروا موطنهم الأول في إطار حملة تهجير جماعية فرضها عليهم الاستخراب الفرنسي عقب إحدى الثورات أو الانتفاضات الشعبية التي علا غبارُها في جبال الأوراس. وحملتهم أقدامهم إلى السفوح الواطئة بعد أن تقرر تهجيرهم ظلما وتعديا. واستقروا، في البدء، قرب قرية الشّمَرَّة. ولما جدبت الأرض، وشحّت السماء لبعض السنوات، انتقلوا للسكن في ضواحي القرية المذكورة، واستطابوا العيش فيها، وراحوا يبحثون عن مصادر أخرى لتحصيل لقمة العيش لأبنائهم حتى خارج الوطن. وكان والده من بين أبناء الأسرة الذين هاجروا إلى فرنسا.

ولد الفقيد ياسين بوسليماني في الخامس أوت من سنة 1971م بقرية الشمَرَّة المرابضة على كتلة صخرية ملساء وضخمة. ومكث فيها حتى أنهى دراسة المرحلة الابتدائية في مدرسة الذكور. ولما انتقلت أسرته إلى مدينة باتنة، دخل إكمالية طارق بن زياد الواقعة في الجزء العتيق من حي الإخوة لمباركية. وحدثني أحد زملائه في هذه المرحلة التعليمية عن مدى حرصه على تجنّب الاختلاط، وميله إلى الصمت، وعن الطريقة التي كان يتأبط فيها محفظته التي لا تفارقه أبدا. ونظرا لسمو أخلاقه، كان يلقى الاحترام والتعاطف من طرف كل زملائه ذكورا وإناثا. ولما انتقل لمواصلة دراسته في ثانوية صلاح الدين الأيوبي في الفرع الرياضياتي، بدأت تظهر عليه علائم التقدم والنبوغ. واستطاع أن يفتك شهادة الباكالوريا بملاحظة تبرز تفوّقه المشهود. ولكنه لم يتحصل على علامات عليا وشبه مختومة كالتالي يتحصل عليها “النوابغ” المزيفون الذين تصنعهم الدروس اللصوصية والمرافقة المستديمة في السنوات الأخيرة، ثم تحل بهم الانتكاسة في مطلع مرحلة التعليم الجامعي التي تكشف حقيقة قدراتهم العادية.

بعد إكمال خطوة الدراسة في الجذع المشترك بمعهد الإلكترونيك في جامعة باتنة، وتخرّج منها في سنة 1994م بشهادة مهندس دولة متقدما زملاءه في الدفعة حسب شهادة أستاذه الأزهر عبيدة الذي أطره في بحثه الذي نال به ملاحظة الامتياز، وفق في كسب تأشيرة الحصول على منحة دراسية في الخارج إثر مشاركته في مسابقة الانتقاء التي جرت في جامعة سطيف. والتحق بجامعة  مدينة روان Rouen الفرنسية. وفي نهاية أربع سنوات من السهر الجاد والبحث الدؤوب، انتزع انتزاعا مبهرا ومستحقا شهادة الدكتوراه في سنة 1999م في تخصص الإلكترونيك. واشتغل في نفس الجامعة أستاذا مدة سنتين. وبعدئذ، رحل إلى جامعة “مونكيتون” Moncton في كندا التي يجري التدريس في كلياتها باللغة الفرنسية. ومنذ سنة 2001م، تخصص في ميدان “الإنسالة” أي: “الروبوتات” بنفس الجامعات بعد أن أصبح أحد أساتذتها المبرزين الذين يشار إليهم بالبنان، ويقابلون بالتقدير. وأريد أن أشير إلى أن مصطلح: “الإنسالة” هو مصطلح مزجي مركب من كلمتين هم: “الإنسان” و”الآلة”، وبما يعني: الإنسان الآلي. ويقصد به كل علم يهتم بتصميم الآليات الإلكترونية التي تشتغل بديلا عن الإنسان، وهو علم لا يتوقف عن التقدم بعد كل يوم وآخر، وما زالت الابتكارات فيه تنتقل من جيل إلى جيل يليه وتزيد دقة وفعالية، وتخفف الأتعاب عن الإنسان في لحظات سلمه وفي أوقات حربه.

قاد الأستاذ ياسين بوسليماني فرق بحث كثيرة انصبَّت أعمالها على تزويد أرقى المصانع والشركات العالمية، ومنها شركة “ميشلان” المتخصصة في صناعة أطر العجلات المطاطية للمركبات، تزويدها بأصناف الروبوتات التي تختصر الوقت وترفع من مردود الإنتاج. وبعد الانتهاء من كل مشروع، يسجل خطوة إضافية في تقدمه وذيوع صيته.

وهب الفقيد ياسين بوسليماني كل دقائق حياته للعلم في سنوات عمره الأخيرة، وكان يقضي أغلب وقته في مخبره أو في الأسفار لمتابعة منجزاته العلمية. وكان قليلا ما يستسلم للراحة واسترجاع أنفاسه، وكأن إحساسا خفيا كان ينبئه بأن المسافة التي تفصله عن أجله المحتوم قد أصبحت قصيرة، وما عليه سوى استفراغ كل ذرات طاقته واستنفاد قطيراتها استنفادا كليا حتى أرهق نفسه.

غادرنا الفقيد الكريم ياسين بوسليماني في التاسع من شهر نوفمبر الماضي. وفي صفحتها على الفضاء الأزرق، أعلنت جامعة ماكنتون متأسفة خبر رحيله في فقرات مقتضبة، وعزّت أهله وأصدقاءه وطلبته وطالباته، وأشارت إلى تكريمه الأخير الذي قوبلت به جهوده. ونستشف من بقية كلمات العزاء مقدار الخسارة التي لحقت بها. وفضلا عن ذلك، عملت على تنكيس الأعلام الثلاثة التي تقع في الساحة المقابلة للكلية التي كان يشتغل فيها تعبيرا عن حدادها. وجرت مراسيم دفنه في تربة مقبرة مدينة باتنة في الرابع والعشرين من نفس الشهر. وكانت جنازته متواضعة، ولم يحضرها سوى عدد قليل من المشيعين الذي ساروا خلف نعشه من المسجد إلى قبره في صمت ووجوم تحت زخات المطر الخفيفة والمتساقطة متقطعة. ويكفيه أن السماء أبت إلا أن تشارك في وداعه، فاغرورقت عيونها، وتكرمت بسكب مائها بعد احتباس دام طويلا، وأمطرت كمن يبكيه في لوعة.

في لحظات الفراق الأخيرة، تجاور الوالد المكلوم مع ابنه “منير” شقيق ياسين في السيارة التي تقل نعش فقيدهم، وراحا يتبادلان عبارات الاستئناس في خفت، ويشدان بأيدي بعضهما في حب وحرارة. وكان كل واحد منهما يحاول أن يخفف من وجع الآخر، ويقلل من ألم المصيبة المتماوج في قلبه. وظللت أتابع هذه اللقطات المؤثرة عن قرب حتى أنزل النعش من السيارة ليوارى الثرى.

رحم الله زين الشباب العالم المبدع ياسين بوسليماني، وجعله من أهل الجنة الكرام مع الأبرار والأخيار.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!