-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

يا عيد…

يا عيد…

تشرئّب إلى هلالك أعناق ذوي القلوب الآمنة المطمئنة، فتملؤها بهجةً وحبورًا، وسرورًا. وتهفو لذكرك مشاعر الطفولة البريئة، فتستلهم من أشّعتك إشراقتها وصفاءها لتزداد نشوة، وفرحة ونشورًا.

إنّ هلال العيد في المجتمع المسلم، رمز للسّمو والعلّو، والنّقاء والصفاء، فهو يشيع –بميلاده- في البيت الزغاريد، والأناشيد، لأنّه يتوّج أعمال شهر من الجهاد والإعداد والاستعداد، إذ يفرح المسلم فيه بكمال صومه، وقيام ليله، واحتساب يومه.

ذلك هو العيد في سالف عهده، وتالد مجده، ولكن ما بال العيد في أيامنا صار يولد كئيبًا حزينًا، ويبدو في عليائه خجولاً مهينًا، ولا يلقى من قلوبنا إلا آهات وأنينًا؟.

فأين العيد من وجوه أسلافنا الضاحكة المستبشرة، التي كانت تفيض أمنًا وأمانًا وإيمانًا؟ وأين هو من مشاعرهم العامرة الزاخرة، التي كانت تفيض حبًا وطهرًا وعرفانًا..

إنّنا نستقبل العيد، اليوم، بعيون دامعة النظرة، ووجوهٍ باسرة السّحنة، فاقرة الشحنة، عليها غبرة ترهقها قترة. وماذا ينتظر من عيد يولَدُ في أفق جماهير تائهة مشرّدة في العراء، وأمام صبية يلتحفون السماء، يتوقون جميعًا إلى الغطاء في برد الشتاء، وإلى نسيم الهواء في قيض الرّمضاء، ولا زاد لهم إلاّ الدّعاء، علّهم به يتخلّصون من شرّ بلاء الأشّقاء، وفضاعة عدوانية الغرباء؟.

رحماك ربّي مما يثيره العيد في رحاب أمّتنا، وقد مسّها الضّر، وطوّقها الشّر، وأحاط بها الكرّ والفرّ، وصار إنسانها متسائلاً: أين المفّر؟.

يذكّرنا العيد –اليوم- بما يحمل من مشاعر الحزن والأسى، بما كان يردّده الشاعر العراقي معروف الرّصافي:

ألا ليت يوم العيد لا كان إنّه يجدّد للمحزون –حزنًا- فيجزع

ينعم النّاس في كلّ بقاع الأرض بأفراح العيد، فهم يسرحون ويمرحون، لأنّهم سلِموا من ظلم العباد، وشقاء البلاد، وآثار الاستبداد، ومكائد وحبائل الأعادي الأوغاد.

بينما ضاقت الأرض بأهلها في كلّ أرجاء وطننا العربي الإسلامي الكبير، فمئات اللاّجئين يهيمون على وجوههم، تبلي أجسادهم سموم القفار أو تأكل شبابهم حيتان البحار، وهم بين البحر والسماء لا يتنفسون الصعداء.

يقول فقهاؤنا يستحبّ لبس الجديد في يوم العيد، وما دروا أن فقههم إنّما جُعِل لعصر غير عصر داحس وداعش، ولا كابوس البصرة، وساعة العسرة، وكماشة الرّوس، وجيش النّصرة.

وهل علم فقهاؤنا عندما سنوا التكبير في العيدين الصغير والكبير أنّه سيأتي زمان يعسر فيه على الأسير والفقير، وقد قيّدت يداه، وصعدت رجلاه، وصودِر مبتغاه، أن ينطق –ولو بالنزر اليسير- من التكبير؟ وأن يجد من اللّباس القديم أو الجديد حتى يتزيّن به في العيد؟.

وهل درى فقهاؤنا أن سنة التكبير قد سقطت على المسلمين في الفلوجة بالعراق، وأدلب وحمص بسوريا الشقاق، ومن الزنتان وسرت بليبيا الرفاق، وقد أفسد أزيز الطائرات عليهم حتى مجرّد الزفير، وقضى على حيطان المساجد، وأحرق التفجير كلّ أثر للمنبر أو السّجاد أو الحصير؟.

لقد عوِّض تكبير المسلمين في مساجدنا بصراخ المعذبين في زنازين سجوننا، فهي تصعد إلى بارئها ليس بينها وبين الله حجاب، لأنّها صرخات المظلومين ومطالب المضطهدين.

ألا فاغرب عن وجوهنا أيّها العيد! فلن نحسّ بطقوسك، ولن نشعر بأشعة شموسك، ما لم تنجز شعوبنا في أعدائها الوعيد، ولم تستعد دورها في استئناف عهدها الحضاري التليد.

إنّ بيننا وبين فرحة العيد أكواما من الرزايا، والضحايا، والبلايا، عجز عن مسح آثارها الدّعاة والقضاة، وبُحَّ في اختراقها صوت العلماء والحكماء، ممزوجًا بظلم الطغاة، فذاب شعاع وبريق العيد في ظلمات وغياهب السّجون والمخيّمات، ومقابر الضحايا من الأبرياء والبريئات.

فيا عيد…

هل كُتِب على أمّتنا أن تبقى، دون باقي شعوب الأرض، تُدير ظهرها للأفراح وتستقبل الأعياد كلّ حين بمزيد من الأحزان والأتراح؟.

فمتى يعي هذه الحقائق كلّها أمراؤنا، وزعماؤنا، وعلماؤنا، وعقلاؤنا، فيدركوا أنّ ليل أمّتنا قد طال، وأنّ كلّ يوم يمرّ بل كلّ ساعة أو دقيقة، إنّما هي تقصير للآجال، وإضافة للوبال، ومحاولة لتمكين المحال.

فليذكر الجميع أنين الأسرى في سجون الاحتلال، وآهات الضحايا الأبرياء القابعين في سجون الأخلاّء الأعداء، من النّساء والرّجال.

أما آن لهذا الليل أن ينجلي، ولهذا القيد أن ينكسر. فإن كان هذا الذي تعانيه أمّتنا هو ابتلاء من الله لنا، فماذا كسبت أيدينا حتى سلّط علينا كلّ هذا العذاب، وأمم من حولنا، تقترف من الجرائم ومن الفواحش ما تستحق به أن تخسف بهم الأرض ويأتيهم العذاب من كلّ باب؟.

وإن كان هذا الذي نعانيه هو بسبب الظلم والاستبداد، والفساد والخيانة، فإنّ على ضحايا هذا الظلم وتوابعه أن يعوا هذه الحقيقة المرّة، فيوحّدوا الصّف، ويعيدوا تحديد الهدف، فليس أنجع وأنفع للضعفاء المستضعفين في مواجهة الظلمة الأقوياء المستبدّين من توحيد كلمتهم وتسديد رميتهم، فإنّ الله ناصرهم مهما طال الأمد، وإن الله قاهر أعدائهم مهما تعسّفوا واشتّدوا {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله} فيفرحوا بطعم العيد وينعموا بشعاع يومه السعيد، وما ذلك على الله ببعيد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • مواطن

    بعد التحية اللازمة ذكرتني مقالتك سبب امتناعي عن الالتزام بصلاة الجماعة يوم نادى الأمام بنفيه لإسلامنا.ثم أكملت بأن الله ناصرهم مهما طال الأمد.لا أشك في نواياك الطيبة نحو المسلمين أجمعين.لو أن كل عالم اهتم بإصلاح ما حوله وعمل على توعية المسؤول والمجتمع بوضع أصبعه على الداء الظاهر والباطن لساهم بفعالية في تقويم ما تعاني منه الأمة.مشاكلنا الضيقة هي من تعكر علينا صفو مجالنا لأن تفكيرنا يكسوه النسيان والتزييف مما سمح للفجار أن يعثوا في الأرض فسادا.تأمل المهزلة التي لحقت بمدرستنا.عار علينا كتمانها.

  • بلعمري عبد العزيز

    لاعيد حنى تنفذوا في صهيون الوعيد *رحمك الله يا البشير
    فلقد غفلنا عن قضيتنا المحورية *فلسطين* فأصابنا ما أصابنا من تشرذم وتمزق
    أما أمراؤنا فليسوا منا ولو كانوا كذلك لكان تفكيرهم مثلنا

  • بدون اسم

    السلام عليكم
    شكرا ..
    صح عيدكم كل عام وأنتم بخير
    .. وما ذلك على الله ببعيد،
    شكرا