-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

يا مُتقاعِدي التّربية، مَنْ لكم؟

لمباركية نوّار
  • 5686
  • 2
يا مُتقاعِدي التّربية، مَنْ لكم؟

الإحالة على التقاعد هي المحطة التي يتوقف فيها الشخص الموظف أو العامل عن أداء عمله بصورة نهائية. والتقاعد نوعان: تقاعد إلزامي، وتقاعد مبكر. ولكل نوع شروطه التي تمنع تحقيقه إلا إذا اكتملت واجتمعت عن آخرها. ولا يعني التقاعد في جميع الحالات، كما يتوهم كثيرون، إحالة المتقاعد إلى الراحة الإجبارية بعد أن أصبح غير قادر على الإنتاج، أو أنه فقد أهليته على العمل. وأما المعاش فيراد به المبلغ الذي يصرف للعامل أو الموظف المسرح بعد سنوات العمل برعاية من الدولة أو من أرباب العمل بعد ذهابه إلى التقاعد أو لإصابته بعجز مقعد أو بعد وفاته إذ يحوّل إلى ذوي الحقوق المعينين قانونا. وتجمع أموال المعاش من اقتطاعات سنوات العمل كمن يضع نصيبا من ماله في بنك للإدخار ومن مساهمات الدولة اعترافا بعطاء عمالها. ويستكمل المعاش بما تسلمه لجان الخدمات الاجتماعية المحلية والوطنية من حقوق مادية تعويضية. وليس معاش التقاعد منحة أو هبة، بل هو راتب، وهو حق مكفول. والمنحة أو الهبة هي عطية، والعطية يحصل عليها من دون مقابل.

تعيش الجزائر حاليا الموجة الثالثة من تقاعد الموظفين العاملين في قطاع التربية الوطنية. وقد شملت الموجة الأولى المعلمون الطلائعيون الذين شاركوا في أول دخول مدرسي من بعد استرجاع الاستقلال الوطني، ومعظمهم من معلمي المدارس الابتدائية. وشملت الموجة الثانية أيضا أساتذة اشتغلوا في التعليم المتوسط. وفي الموجة الثالثة أضيف إلى المجموعتين السابقتين أساتذة التعليم الثانوي. والحقيقة، أن المعلمين الأوائل، واعتقد أن أغلبهم قد غادر إلى الحياة الأخرى، لم يسعدوا في سنوات تقاعدهم بسبب هزال مرتباتهم التقاعدية ووضاعتها، وعاشوا ألوانا من الغبن والحرمان. وقد حضرت مرة اجتماعا وقف في جمعه شيخ معلم وقال: (لقد دخلت إلى التعليم في بداية الاستقلال والجوع ينهش أحشائي ويقطعها إربا إربا، وها أنا أغادره ولا أجد من يسد رمقي ويلبي حاجتي ويغطي مطالب عائلتي). وأما مرتبات الموجتين الثانية والثالثة فقد كانت أحسن قليلا نسبيا بفضل إجراءات رفع المرتبات على فترات.

عمل أغلب المعلمين الأوائل، ورغم محدودية الزاد المعرفي وندرة السندات البيداغوجية المعينة، بتفان وإخلاص، وشاركوا في تكوين أجيال توزعوا على كل القطاعات. ولم تطف بأذهانهم في يوم من الأيام فكرة غلق أبواب المدارس وتعطيل الدراسة لتحسين أوضاعهم. ولم يستفيدوا من مرتبات معاشية تحفظ ماء وجوهم وتصون كرامتهم. وأمضوا نهايات أعمارهم في فاقة وعوز بعد أن أتعبهم غلاء المعيشة وارتفاع مستحقات استئجار السكنات. ووجدوا أنفسهم يصارعون متاعب الحياة وحيدين، ولم يلتفت إليهم أحد. وعانوا من تفاقم الأمراض المزمنة التي أتعبتهم، ومن التهميش والازدراء، ونسي أبناِؤهم الروحيين الذين تولوا المناصب العليا فضلهم عليهم، وتنكروا لهم، ولم يقلقوا أنفسهم في الدفاع عنهم في الحضور وفي الغياب.

أراد متقاعدو الموجة الثانية الباقين على عهد الأوائل الذين سبقوهم أن يرفعوا عقيراتهم ويسمعوا أصواتهم، فبادروا في بعض الولايات إلى تأسيس جمعيات ذات طابع اجتماعي وثقافي وترفيهي وتكافلي، وتمكنوا من جمع أشتات بعض زملائهم. وكان يفترض أن تمنح لهذه الجمعيات التي أسسوها كل المساعدات والتسهيلات حتى تكون موارد ناضجة وفعالة في تيار المجتمع المدني الناهض؛ لأنها تضم إطارات على مستوى محترم من الثقافة والدراية والوفاء للوطن، إلا أنهم حوصروا حتى تعسرت حركتهم، وشددت على رقابهم حبال التضييق. فهناك من هذه الجمعيات الولائية من حرمت من الاستفادة من مقر يجتمع تحت سقفه أعضاؤها، ومنها من منحت مقرات كخخمة الدجاج لا تليق، ومنها من استفادت من مقرات مناسبة ثم حوربت من أطراف متعددة حتى تغادره تحت دعاوى مختلقة وأعذار مفتعلة. ومن الغريب العجيب أن معظم من يقف في وجوه هذه الجمعيات مانعا ومعاكسا ومضيقا هم من أهل التربية نفسها؟؟. وهذا ما يصعب تفسيره؟. وقد نسي هؤلاء أن هذه الجمعيات هي مآلهم غدا أو بعد غد إن طالت بهم الأعمار.

يوجد بين متقاعدي التربية رجال أفذاذ ونساء متفردات، فازوا بسمعات يحسدون عليها ولائيا وجهويا ووطنيا، واستطاعوا أن يصنعوا أجيالا “حمّروا” وجه الجزائر في المحافل العلمية وطنيا وعالميا، وكانوا قدوات مثلى لطلابهم في العطاء والانضباط والتكوين النوعي. وما يحز في نفوس عارفي أفضالهم أنهم غادروا دنيانا في كنف صمت مطبق!. وحتى الوزارة المعنية لم تكلف نفسها إعلان نعايا رحيلهم وبثها في وسائل الإعلام، وتعزية ذويهم؟. ومن المحزن أن يصل النكران وعدم الاعتراف بالجهود الجبارة لمربين عظماء إلى هذا المستوى من التناسي؟، أليس هؤلاء المربون هم من ضحوا وكوّنوا الكفاءات التي يزخر بها الوطن في كل القطاعات؟. أفلا يرون أن ميدان التربية هو أكبر ساحات الجهاد الأكبر؟. وكان من الحري، أن تقام لهم المآتم وسرادق العزاء، وأن يعرّف بعظائم أعمالهم التي ترى مرسومة في شخصية كل من جلس بين أيديهم متعلما، وأن تكتب في حقهم المراثي المبكيات نثرا وشعرا، وأن تدوّن سيّرهم المضيئة في صحائف نيرة، وأن تنشر بين الورى، وأن تقرأ بصوت عال مزلزل لاستلال العبر، وأن يكرّم كل واحد منهم تكريم خدام الوطن الكبار وبناته البسلاء. فهل من العدل والحق أن يموت المربي ولا نجد في موكب تشييعه سوى أهله وأقرب مقربيه؟؟. وعلى مدار السنوات الأخيرة فقدت التربية أطوادا شامخة راسخة، ولم نسمع برحيل معظمهم إلا بعد مضي شهور أو سنوات من أمثال: محمد بن قادة، بلقاسم جبايلي، الطاهر حرّاث، محمد محفوظي، محمد بومدين، محمد الأخضر بوطمين، تواتي المكي، نور الدين علوي، مصطفى سريدي، عمار زروال، محمد يعقوبي، السعيد مرزوقي، أحمد طلحي، عبد الرحمن طواهرية… وغيرهم، رحمهم الله جميعا.

كأن جهات خفية في وزارة التربية الوطنية تعمل على على بتر جسور الربط وقطع خيوط الوصال مع من خدموها ورفعوا لواءها بمجرد أن يتدحرجوا إلى التقاعد على خلاف ما يجري في كل القطاعات الأخرى. ومن هؤلاء طاقات ماتزال قادرة على تقديم ما ينفع التربية في كل الجوانب التربوية والبيداغوجية والقانونية والتنظيمية. فهل اللقاء بما يسمى بـ”نقابات التربية” التي تسببت منذ ظهورها في اعتلال صحة التربية وأصابتها بأسقام منهكة كالإضرابات المفتوحة خير من مد اليد إلى المتقاعدين للاستفادة منهم؟. فبأي حق يفرض على أسماء بارزة تسلحوا بالكفاح والمثابرة وبالغيرة المحمودة على قطاع التربية، وطبعوا سيرهم بطوابع ذات مقامات مرفوعة، فبأي حق يفرض عليهم طي صفحاتهم من دون ذكر أو شكر؟. ولمَ لمْ يؤخذ من معين خبراتهم الغنية في مجالات التسيير وإعداد المناهج وتأليف الكتب المدرسية وتقويم الامتحانات الرسمية وعرض آرائهم فيها؟. وكيف يستغنى عن أمثال:  عيسى بوسام، إبراهيم حمروش، محمد لشهب، عبد المالك حمروش، عبد القادر مهري، عبد الحفيظ تيمقلين، إبراهيم بلولة، محمد زعلاني، محي الدين مالطي، محمد صبيحي، فوزي نابي، علي نابي، الصديق عثامنة، عبد القادر فوضيل، قريني الشريف، السعيد هبية، صلاح الدين خزوز، مصباح جلامدة، ناصر بلقاسم، عبد العالي برباري، العيد قرمي، عائشة بن عمار … والقائمة مفتوحة؟. وكيف لا يفسح المجال لهم لإسماع كلماتهم؟. أم أن الاجتماع إلى ما يسمى بـ”نقابات التربية” والاستماع إلى بكائيات مطالبها التي لا تنتهي والإصغاء إلى الجمعيات الفاشلة التي هلكت الحرث والنسل، وساهمت في تصحير ميدان التربية تحت عنوان: “الشركاء الاجتماعيين” أنفع وأفضل وأفيد؟. ولو وظف هؤلاء الشرفاء التربية في خدمة مصالحهم، وصنعوا منها سلاليم ومدارج للحصول على المناصب والمكاسب كما يجري اليوم لكان لكل واحد منهم شأن آخر مغاير تماما.

يشكو متقاعدو التربية من ظلم لجان الخدمات الاجتماعية لعمال التربية منذ نشأتها إلى اليوم. فهم محرومون من أغلب الحقوق التي تمنح للمعلمين والأساتذة (ولا أقول المربين) الذين ما يزالون في أطوار الخدمة؛ لأن القوانين التي تسن لا تقبل إلا إذا كانت على مقاسهم. فكيف يحرم المتقاعد من سلفة امتلاك مسكن، أو اقتناء سيارة بدعوى أن العمر قد تقدّم به؟. وهل نسى من سن هذه القوانين أن الأعمار بيد الله، وأن للمتقاعد ورثة يتحملون أعباء تسديد ديونه إن فقدوه؟. وهل يعقل أن يمنع من شارك بأقساط من مرتبه لمدة زادت عن أربعين سنة عند بعضهم وتصب الاستفادة في جيب من اشتغل لسنة واحدة أو عدة سنوات معدودات؟؟. فأي جور هذا الذي لا يضاهيه أي جور؟. ولو حكمنا العقل، فلمن تكون الأسبقية للذهاب في رحلات أداء العمرة إلى البقاع المقدسة؟. وكيف ينافس المعلم أو الأستاذ أو العامل المبتدئ معلميه وأساتذته المتقاعدين في ذلك؟. وقبل كل ذلك، لماذا يمنع المتقاعدون من المشاركة كأعضاء في اللجان الولائية للخدمات الاجتماعية وفي اللجنة الوطنية؟. وكيف يزاح الألم من تجاويف القلوب ونحن نتابع يوميا شكاوى واحتجاجات عمال التربية الذين ذهبوا إلى التقاعد في سنوات 2008 و2009 و2010 ولم يتحصلوا على منحة إنهاء الخدمة إلى اليوم؟. فهل سترسل لهم إلى قبورهم بعد فوات الآوان؟. فمن ينصف هؤلاء؟، ومتى ينصفون؟؟. ولا أبغي الاسترسال كثيرا مع قضية لجان الخدمات الاجتماعية لعمال التربية المؤتمنة على أموال عمال التربية في هذه السانحة. وقد نفرد لها مقالا تفصيليا خاصا في اللاحق من الزمن.

لا أريد أن يفهم أن مضمون هذه السطور هو صرخات استجداء أو استعطاء أو استعطاف، وإنما نرجو أن تقرأ قراءة مستقيمة ونظيفة من كل عوج تأويلي، وخالية من أوهام التصوّرات التي لا تليق برجال التربية في كل المستويات، ومجردة من رذائل التفكير الانتهازي التفردي. وهي القراءة التي تؤسس لتنقية فضاء التربية من شوائب حب الذات والانتصار لها ولو على حساب الزملاء الذين تتعاقب أجيالهم وتتلاحق في تسلم أمانة تشييد بناء مستقبل الوطن الثقيلة.

بوسعي التذكير أنني لا أتحدث عن مجتمع مثالي نابع من سلالات نقية وتامة الصفاء كسلالات نبات البازلاء التي استعملها العالم جريجور مندل في أولى ممارساته الزراعية الحقلية التي أنجبت علم الوراثة. وإنما اعتقد أن نسبة كبيرة من هذا المجتمع، وخاصة الأجيال التي يوجد أفرادها حاليا في مرحلة التقاعد يتمتعون بكثير من صفات الإخلاص وخدمة الوطن في تفان ووفاء.

سؤال مقالي: “يا متقاعدي التربية، من لكم؟” هو سؤال مثير للشجن ومشحون بالوجع. وجوابه: لكم الله. ومن كان الله معه ووليه لن يخيب، ولن ينكسر قلبه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • زهرة المسك

    بارك الله فيك ، اثلجت صدري أخي الكريم .... متقاعدة منذ 2014

  • بن صالح

    لنا الله، انسيت ان للكعبة رب يحميها