-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

يا وزارة التعليم العالي : ما “العِلْمُ المركزي”؟!

يا وزارة التعليم العالي : ما “العِلْمُ المركزي”؟!

منذ نهاية السبعينيات من القرن العشرين صار علم الكيمياء يعرف بـ”العلم المركزي” نظرًا لدوره في ربط العلوم الفيزيائية (التي تشمل الكيمياء) وعلوم الحياة والعلوم التطبيقية (الطب والصيدلة والهندسة…). أما منظمة اليونسكو التي اعتمدت سنة 2011 السنة الدولية للكيمياء فتقول: “يجب أن تكون كيمياء الغد أولاً علمًا مسؤولاً. من المؤكد أنها ستؤدي دورًا رائدًا في تطوير الطاقات البديلة والتغذية لسكان العالم المتزايدين”.

الفصل بين الفيزياء والكيمياء…

ومع ذلك لازلنا في الجزائر نعيش تناقضا صارخا في مجال التعليم بكل مراحله : فبينما يفضل أغلب الطلبة في الجامعة التوجه نحو الكيمياء إذا ما خيّروا بين الفيزياء والكيمياء -لأن حظوظها أوفر في التوظيف- نجد عند طلبة المدارس العليا للأساتذة العكس هو السائد لأن مناهج مادة العلوم الفيزيائية في الثانويات تتغلب عليها الفيزياء! هذا يعني أن وزارة التربية تهمل إهمالا واضحا تدريس مادة الكيمياء في مناهجها بدل أن تدرك نظرة العلماء عبر العالم الذين يرونها قد أصبحت اليوم بمثابة “العلم المركزي” : كيف نهمل مادة علمية في الثانوية سيكون طلبتنا الجامعيون في أشد الحاجة إليها في سوق العمل؟ كان من المفروض أن تستدرك مناهج وزارة التربية الأمر وتساوي على الأقل بين أهمية مادتي الفيزياء والكيمياء خلال المرحلة الثانوية.
عندما ننظر إلى تاريخ شهادات الفيزياء والكيمياء في البلاد منذ الاستقلال نجد أن كلية العلوم بالجامعة المركزية كانت تمنح شهادتين في العلوم الفيزيائية، وهما ليسانس في الكيمياء وليسانس في الفيزياء. ولما دُشنت أول مدرسة عليا للأساتذة عام 1964 بالقبة، كان طلبتها الموجهون إلى تدريس مادتي الفيزياء والكيمياء في الثانويات يزاولون دراستهم بجامعة الجزائر دون غيرها، ويحملان في آخر سنة إحدى هاتين الشهادتين بدون تمييز بينهما. وظل الأمر كذلك نحو عقد من الزمن.
وعندما تولّت المدرسة العليا بالقبة في منتصف السبعينيات مهمة تكوين طلبتها بنفسها دون الاستعانة بالجامعة المركزية فانطلاقا من ذلك التاريخ كانت تمنح شهادتان (مدة التكوين فيهما 3 سنوات) هما “شهادة الليسانس للتعليم، شعبة العلوم، فيزياء -كيمياء، فرع أ” و “شهادة الليسانس للتعليم، شعبة العلوم، فيزياء -كيمياء، فرع ب”. وحاملو هاتين الشهادتين يدرّسان دون تمييز بينهما مادة “الفيزياء والكيمياء” في الثانويات.
ثم بعد إصلاح التعليم عام 1983 حتى 2001 أصبحت الشهادتان باسم “شهادة الليسانس للتعليم، شعبة العلوم، فرع فيزياء” و”شهادة الليسانس للتعليم، شعبة العلوم، فرع كيمياء”. والحاصل على إحدى الشهادتين يدرّس مادة “الفيزياء ولكيمياء” في الثانويات دون تمييز بين حاملي الشهادتين. وبدءا من 2001 صارت مدة الدراسة في المدارس العليا للأساتذة لمن سيكون أستاذا في التعليم الثانوي 5 سنوات. ووضعت مناهج هذا الإصلاح من قبل أساتذة هذه المدارس المتواجدة في العاصمة ووهران وقسنطينة بمعية مفتشين من وزارة التربية. وكان هؤلاء جميعا يجتمعون في أفواج (حسب التخصصات) دوريا خلال 3 سنوات لاستكمال تفاصيل هذه المناهج التي غطت السنوات الخمس لكل اختصاص.
وفي هذا السياق، قرر هؤلاء الخبراء في الفيزياء والكيمياء وضع مناهج مشتركة تؤهل المتخرجين من الفئتين تدريس مادة العلوم الفيزيائية، مع التوسع في مادة الفيزياء للبعض والتوسع في مادة الكيمياء للبعض الآخر، وأطلقوا على شهادتيهما اسم “شهادة أستاذ التّعليم الثّانوي، تخصص فيزياء” و “شهادة أستاذ التّعليم الثّانوي تخصص كيمياء”.
لماذا اختار هؤلاء الخبراء هذا التوجه؟ هناك سببان : السبب الأول هو أن كثيرا من الدول تخصص في المرحلة الثانوية أستاذا لمادة الفيزياء وأستاذا ثانيا لمادة الكيمياء عكس ما هو معمول به في بلادنا. ونظرا للتقدم الكبير الذي أحرزته الكيمياء وتشعبها في كثير من الميادين خلال العقود الماضية، كان الخبراء يرون بأنه من الراجح أن تحذو الجزائر مستقبلا حذو تلك الدول المتقدمة فتجد حينئذ ما يلزمها من المكوّنين المختصين.
أما السبب الثاني، فمن عادة المدارس العليا، منذ الستينيات، أنها تسمح كل سنة لعدد من الخريجين (10% من كل دفعة) بمواصلة الدراسات العليا. ولذلك فهذا التوجّه يسمح للمتفوقين من الفئة الأولى بمواصلة دراستهم في الفيزياء وللفئة الثانية بمواصلة دراستهم في الكيمياء إذا ما نجحوا في المسابقات المؤهلة للدراسات العليا. ومن المعلوم أن إتاحة هذه الفرصة للمتفوّقين من شأنه أن يحفّز مجمل الطلبة في المدارس العليا على التنافس خلال الدراسة فيزيد من تحصيلهم العلمي.

قرار الوصاية من قبيل “الثورة المضادة”!

وهكذا نرى بأن، منذ الاستقلال إلى اليوم، كانت هناك شهادتان إحداهما تتميز بزاد إضافي في الفيزياء والأخرى بزاد إضافي في الكيمياء، وكل منهما تسمح بتدريس مادة “الفيزياء والكيمياء” أو ما يسمى الآن بمادة العلوم الفيزيائية. وتشمل “العلوم الفيزيائية” عند أهل الاختصاص الفيزياء والكيمياء معًا، وهناك من يضيف إليهما علم الفلك، بل حتى مادة الجيولوجيا عند البعض.
كان هذا النظام ساريا دون أي مشكل يذكر. فما الذي أثار مشكل التمييز بين حملة شهادة الفيزياء وشهادة الكيمياء في صفوف خريجي المدارس العليا؟ لقد ظهر هذا المشكل مؤخرا عندما شحّت مناصب التوظيف في سلك التدريس بوزارة التربية، وأقدمت بعض مديريات التربية على تصنيف خريجي المدارس العليا بتمييز حملة شهادة الفيزياء على زملائهم حملة شهادة الكيمياء. فوجد الخريجون الكيميائيون أنفسهم في ذيل من له الحق في منصب وظيفي.
وإثر احتجاج هؤلاء المظلومين أصدرت وزارة التربية يوم 12 أبريل 2021 تعليمة موجهة للسادة مديري التربية عبر الوطن لتنبيههم إلى ضرورة التعامل بالمثل مع الفئتين حيث جاء في التعليمة النص التالي : “يشرفني أن أطلب منكم العمل على التكفل بفئة خريجي المدارس العليا للأساتذة في تخصص الكيمياء من خلال توظيفهم لتدريس مادة العلوم الفيزيائية في مرحلة التعليم الثانوي على غرار خريجي المدارس العليا للأساتذة في تخصص الفيزياء”. وهذا ما كان يجب أن يكون حسب ما أوضحنا آنفا من رؤى واضعي المناهج في مطلع هذا القرن. واعتقدنا أن المشكل قد زالت أسبابه.
غير أننا تفاجأنا في الآونة الأخيرة بقرار غريب جاء الحديث عنه في محضر المجلس العلمي بمدرسة القبة. يقول نصه ” إن مدير المدرسة استعرض التوجيهات الصادرة عن الوزارة الوصية بتجميد التوجيه في تخصص الكيمياء ابتداء من السنة الجامعية 2021-2022″ !! والوزارة الوصية هنا هي وزارة التعليم العالي. وعندما سئلت إدارة المدرسة عن نص هذه التوجيهات أجابت السائلين بأنها توجيهات شفوية!!
وهنا تهاطلت أسئلة المعنيين على الوصاية: من اتخذ هذا القرار المنافي لما قرّره الخبراء واضعو المناهج السارية المفعول لحد اليوم؟ وبأي حق يتخذ هذا القرار الإداري التعسفي الذي يخالف ما يراه خبراء البيداغوجيا؟ أليس هؤلاء هم المخوّلون، دون غيرهم، باتخاذ القرار الذي يبتّ في من يدرس العلوم الفيزيائية ومن لا يحق له تدريسها؟ ثم ما الهدف والداعي إلى اتخاذ هذا القرار؟ فلو فكّر هذا المسؤول في وجاهة اتخاذ هذا القرار قبل ظهور تعليمة وزارة التربية الصادرة في 12 أبريل الماضي (المشار أعلاه لفحواها) وبعد استشارة واضعي المناهج لكان ذلك جائزا؟ وبعد كل ذلك كيف يُتخذ مثل هذا القرار الخطير والمدارس العليا للأساتذة مقبلة بعد بضعة شهور على تغييرات جذرية في كافة مناهجها بالاتفاق بين وزارتي التعليم؟! وأخيرا كيف تقبل مؤسساتنا التعليمية تنفيذ قرارات شفوية من هذا الحجم وهذه الخطورة… وتدرجها في جدول أعمال المجلس العلمي في باب “المتفرقات”؟ ! والأغرب من ذلك أن بعض المدارس لم يعمل بهذا القرار وتسكت عنه الوصاية.
فأي فوضى هذه في اتخاذ القرارات العشوائية التي يجوز لنا -لو كنا من السياسيين- وصفها بأنها تندرج ضمن ـ”الثورة المضادة” المثيرة للبلبلة مجانا!
كان حريًا بصاحب القرار أن ينكبّ على قرارات أخرى من قبيل تلك التي تردع الطلبة الذين يقومون بغلق أبواب المؤسسات الجامعية وقاعات التدريس لأتفه الأمور. إنها الرداءة بعينها في تسيير شؤون التعليم من المدّعين الحرص على ازدهار البلاد… وقد ضلّ سعيهم وهمْ “يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!