الرأي

‮”‬الدارجة‮” ‬واللغة الرسمية‮: ‬الأدهى والأمر‮!‬

لقد اتخذ موضوع التدريس بالدارجة أبعادا لم تكن منتظرة من هذا الطرف أو ذاك،‮ ‬وجاءت تصريحات الوزير الأول الأخيرة لتمسك العصا من الوسط في‮ ‬انتظار تهدئة الأوضاع وميول الكفة في‮ ‬هذا الجدل الذي‮ ‬تمنّينا ألا‮ ‬يطول لينشغل القوم بما‮ ‬يحتاج فعلا إلى نقاش‮. ‬

من تلك المواضيع التي‮ ‬كان من المفروض أن تطرح بقوة،‮ ‬موضوع‮ ‬يشدّ‮ ‬الانتباه في‮ ‬الداخل والخارج‮: ‬لماذا‮ ‬يلجأ الرسميون خلال أدائهم لمهامهم الرسمية في‮ ‬داخل البلاد وخارجها إلى الحديث بلغة أخرى‮ ‬غير اللغة الرسمية؟ هل المواطن الجزائري‮ ‬محكوم عليه أن‮ ‬يتقن لغة أجنبية ليفهم الخطاب الذي‮ ‬يوجهه إليه المسؤول الكبير والصغير في‮ ‬البلاد ويتواصل معه؟‮ ‬

ألا‮ ‬يشعر المسؤول عندنا بالإحراج حينما‮ ‬يكشف عن جهله باللغة الرسمية أمام الملأ في‮ ‬الداخل والخارج؟ كيف‮ ‬يقبل تحمل مسؤولية وهو عاجز عن توضيح أمرها وسيرورتها لمخاطبيه الجزائريين على الأقل؟ كيف‮ ‬يعيّنه من‮ ‬يعيّنه في‮ ‬ذلك المنصب وهو‮ ‬يدرك عجزه وعدم مقدرته على التواصل مع المواطنين؟ هل نتصور مسؤولا ألمانيا لا‮ ‬يستطيع مخاطبة الألمان بالألمانية؟ بل هل نتصور إسرائيليا أو إيرانيا أو تركيا أو رومانيا أو فرنسيا أو صينيا‮… ‬يخاطب جمهور بلده بلغة أخرى‮ ‬غير لغة البلد؟ أبدا‮! ‬

لا‮ ‬يحدث هذا إلا عندنا لأن إتقان اللغة التي‮ ‬يلم بها معظم أفراد الشعب‮ (‬وهي‮ ‬اللغة العربية لكونها لغة التدريس منذ نصف قرن،‮ ‬ولكون الشعب الجزائري‮ ‬مكون من الشباب‮) ‬ليس من شروط تولّي‮ ‬المسؤوليات عند أصحاب الحل والربط،‮ ‬ولو كان هذا الإتقان شرطا أساسيا في‮ ‬تولّي‮ ‬المناصب ما وجدنا من‮ ‬ينادي‮ ‬بتدريس الدارجة في‮ ‬المدارس‮… ‬وما تولّى مثلا مهام وزارة التربية شخص لا‮ ‬يتقن لغة التدريس مهما كانت وطنيته ونزاهته وإخلاصه وولاؤه والتزامه،‮ ‬ونظرا لهذا التسيّب فنحن نجد هذه الأيام الإعلام المعرب‮ ‬يندّد عموما بفكرة التدريس بالدارجة متخذا أشكالا مختلفة،‮ ‬وبالموازاة مع ذلك نجد الإعلام المفرنس برمته‮ ‬يصب في‮ ‬اتجاه تدعيم الفكرة والتنديد بـ”المحافظين-البعثيين-الإسلامويين‮”… ‬هكذا كتلة واحدة دون تمييز‮… ‬وأحيانا‮ ‬يضيفون إليها‮ “‬الأصوليين-الإرهابيين‮”! ‬

ولعل الأديب والأستاذ أمين الزاوي‮ ‬‭-‬رغم عمق ثقافته وتمكنه الكبير من اللغتين‮- ‬كان أوضح هؤلاء عندما كتب في‮ ‬صحيفة ليبرتي‮ (‬الناطقة بالفرنسية‮) ‬يوم‮ ‬6‮ ‬أوت مقالا بعنوان‮ “‬لغة حية أو لغة الحياة؟‮”‬،‮ ‬تناول الكاتب في‮ ‬هذا المقال دور الدارجة في‮ ‬تعميق الثقافة وإثراء اللغة الرسمية،‮ ‬وجاء على لسانه على الخصوص‮: “‬على الرغم من أن العربية لغة جاءت قبل الإسلام فإن هذا الدين استولى عليها،‮ ‬لقد صادر الدين الإسلامي‮ ‬اللغة العربية‮”! ‬

ونقرأ في‮ ‬مكان آخر من نفس المقال‮: “‬اللغة العربية الفصحى كانت منذ الاستقلال لغة مقدسة في‮ ‬المساجد والمدارس،‮ ‬بين‮ “‬الديني‮” ‬و”الوطني‮” ‬أما اللغة الفرنسية فكانت دائما لغة الانفتاح ولغة القرار‮.” ‬

ثم‮ ‬يقترح في‮ ‬نفس النص‮:”‬لكي‮ ‬تتحرر اللغة العربية من الذاكرة الدينية فلا بد لها من أن ترتمي‮ ‬في‮ ‬أحضان الدارجة‮” (‬كذا‮)‬،‮ ‬ثم‮ ‬يضيف‮: “‬لقد صارت اللغة العربية الفصحى مُتْعَبَة بشكل متزايد من جراء المد الديني‮ ‬السياسي‮ ‬والتقليد‮ (‬المحافظة‮).” ‬

نجد في‮ ‬هذا المقال التحليلي‮ ‬القصير لوضع الدارج والفصيح الإشارة إلى الدين والإسلام عديد المرات،‮ ‬رغم أن عدد كلماته تناهز‮ ‬600‭ ‬كلمة،‮ ‬وهكذا‮ ‬يرى الأستاذ الزاوي‮ ‬ومن حذا حذوه أن”الدين الإسلامي‮” ‬هو المشكلة في‮ ‬القضية اللغوية المطروحة وأن”الدارجة‮” ‬هي‮ ‬التي‮ ‬ستحلها أو ستؤدي‮ ‬دورا أساسيا في‮ ‬حلها‮!‬

وبالموازاة مع ذلك هناك من لا‮ ‬يربط هذا الربط الغريب بين المعتقد‮ (‬الدين أو‮ ‬غيره‮) ‬واللغة،‮ ‬نشير على سبيل المثال إلى مقال طويل بعنوان”العلوم العصبية في‮ ‬الاكتساب والتعلم المدرسي‮ ‬للغة‮: ‬قضية نفسية معرفية وليست قضية اجتماعية‮” ‬طالعتنا به‮ ‬يوم‮ ‬22‮ ‬أوت الخبيرة في‮ ‬اللسانيات وعلم النفس،‮ ‬الأستاذة نصيرة زلال في‮ ‬صحيفة‮ “‬يومية وهران‮” (‬الناطقة بالفرنسية‮)‬،‮ ‬وذلك في‮ ‬سياق الجدل القائم حول الدارج والفصيح‮.‬

‭ ‬تساءلت الأستاذة زلال‮: “‬لماذا أطفال الألمان‮… ‬الذين‮ ‬يتكلمون لغات جهوية شديدة الاختلاف‮ ‬‭-‬10‮ ‬لغات على الأقل‮-… ‬لا‮ ‬يشعرون بأي‮ ‬نوع من الصدمات العصبية عندما‮ ‬يتعلمون في‮ ‬المدرسة اللغة الألمانية المعيارية التي‮ ‬يوحّدها ويثريها السويسريون والألمان والنمساويون بصفة منتظمة؟‮”‬،‮ ‬وتضيف الأستاذة قائلة‮: “‬إن التحجج بإحداث صدمة عصبية لدى الطفل إثر الاحتكاك البسيط بالجديد في‮ ‬المدرسة،‮ (‬أو تذكيرنا‮ ‬‭-‬‮ ‬وهذا أدهى‭-‬‮ ‬بأنه علينا الاعتزاز بـ‮ “‬قيم أسلافنا التي‮ ‬تحملها لهجاتنا‮” ‬والدفاع عنها بقوة‮) ‬ليست حجة علمية،‮ ‬ذلك أن هذا الخطاب المزدوج‮ ‬يفتقد إلى إثبات تدعمه دراسة مقارنة‮… ‬ما دام الأمر‮ ‬يتعلق‮ “‬بالبيداغوجيا المدرسية‮” ‬فحتى نكون علميين‮ ‬يجب الاعتماد على مفهوم المشاهدة والملاحظة كيلا نقع في‮ ‬خطاب بعيد عن الموضوعية‮.”‬

‭ ‬نلاحظ أن مقال الأستاذة زلال‮ ‬يقع في‮ ‬أزيد من‮ ‬6000‮ ‬كلمة‮ (‬أي‮ ‬ما‮ ‬يعادل‮ ‬10‮ ‬مرات طول مقال الأستاذ الزاوي‮) ‬ورغم ذلك لم ترد فيه أبدا كلمة‮ “‬الدين‮” ‬أو”الإسلام‮”! ‬والغريب أن‮ ‬يلاحظ الأستاذ الزاوي‮ ‬أيضا‮:”‬في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬تموقعت فيه الدارجة في‮ ‬الفن والإبداع‮… ‬تموقعت اللغة العربية الفصحى في‮ ‬المساجد وخطب الجمعة والصلاة على الأموات وفي‮ ‬الخطب الرسمية الكاذبة‮”.‬

وجه الغرابة الذي‮ ‬نريد هنا الإشارة إليه‮ ‬‭-‬إضافة إلى ما‮ ‬يحمّله الكاتب للدين بخصوص استحواذه على اللغة العربية‮- ‬أن نسمع بأن اللغة العربية الفصحى تموقعت في‮ ‬الخطاب الرسمي‮! ‬نحن نفهم من‮ “‬الخطاب الرسمي‮” ‬أنه الخطاب الذي‮ ‬يدلي‮ ‬به المسؤولون الرسميون‮ (‬سيما كبارهم‮)‬،‮ ‬فمن الذي‮ ‬يتكلم اللغة الرسمية في‮ ‬البلاد من الرسميين،‮ ‬يا ترى؟ لعلهم‮ ‬يتكلمونها خفية في‮ ‬بيوتهم؟ فإذا استثنينا النزر القليل من هؤلاء وجدناهم لا‮ ‬يحسنون اللغة الرسمية،‮ ‬ولا حتى الدارجة أحيانا،‮ ‬وتلك هي‮ ‬الكارثة الكبرى المسكوت عنها من كل الأطراف‮.‬

مقالات ذات صلة