الرأي

‮”‬المتجر‮ ‬الربيح‮…”‬

ربحت المكتبة الحديثية، في الجزائر خاصة وفي العالم الإسلامي عامة، كتابا قيما هو “المتجر الربيح والمسعى الرجيح في شرح الجامع الصحيح”، أي صحيح الإمام البخاري، رضي الله عنه، الذي هو أصح كتاب على وجه الأرض بعد كتاب الله الكريم، إن مؤلف هذا الكتاب هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن مرزوق التلمساني المعروف بالحفيد، الذي جاءه اليقين في سنة 842هـ / 1439م، وهو من أسرة المََرَازِقة التي أنجبت كثيرا من العلماء، وما منهم من أحد إلا له مقام كبير في العلم المحصّن، بالخلق الحسن والورع.

ومما يدل على مقام الإمام ابن مرزوق في العلم ما قاله عنه الإمام محمد بن يوسف السنوسي من أنه غزير العلم، حاز فيه قصب السبق المطلق في زمانه، شجاعا في ذات الله تعالى، “ولقد خمد نور العلم وطُمست آثاره، وظهرت أنواع البدع، ونشرت أعلامها بعد موته في بلدنا تلمسان” وكذلك ما قاله عنه الإمام ابن حجر‮ ‬عندما‮ ‬لقيه‮ ‬في‮ ‬القاهرة‮ …”‬ونعم‮ ‬الرجل‮ ‬هو‮ ‬معرفته‮ ‬بالعربية،‮ ‬والفنون،‮ ‬وحسن‮ ‬الخط،‮ ‬والخلق،‮ ‬والوقار،‮ ‬والمعرفة،‮ ‬والأدب‮ ‬التام،‮ ‬ورجع‮ ‬إلى‮ ‬بلاده‮ ‬بعد‮ ‬أن‮ ‬حدث‮ ‬وشغل،‮ ‬وظهرت‮ ‬فضائله‮”. ‬و‮”‬سمع‮ ‬مني،‮ ‬وسمعت‮ ‬منه‮”. ‬
وبالرغم من قيمة الإمام ابن مرزوق الحفيد العلمية والخلقية فإن العناية به وبآثاره ـ قديما وحديثا ـ مفقودة، ولا تفسير لذلك إلا استقلالنا لعلمائنا، وانبهارنا اللامحدود بغيرنا ولو كانت بضاعتهم مزجاة، ويبدو أن هذه العلة قد تأصلت فينا، نحن الجزائريين خاصة، وقد اشتكى‮ ‬من‮ ‬هذه‮ ‬العلة‮ ‬أبو‮ ‬عبد‮ ‬الله‮ ‬محمد‮ ‬ابن‮ ‬مريم‮ ‬في‮ ‬كتابه‮ “‬البستان‮ ‬في‮ ‬ذكر‮ ‬الأولياء‭ ‬والعلماء‮ ‬بتلمسان‮”. ‬حيث‮ ‬قال‮: “‬ويرحم‮ ‬الله‮ ‬المشارقة‮ ‬ما‮ ‬أكثر‮ ‬اعتناءهم‮ ‬بمشائخهم‮  ‬وبالصالحين‮ ‬منهم‮ ‬خصوصا‮”. ‬
ً‮(‬ص‮ ‬7‮)‬،‮ ‬ومن‮ ‬قبل‮ ‬ابن‮ ‬مريم‮ ‬اشتكى‮ ‬من‮ ‬هذه‮ ‬العلة‮ ‬الإمام‮ ‬ابن‮ ‬حزم‮ ‬الأندلسي‮ ‬حيث‮ ‬قال‮: ‬
أنا‮ ‬الشمس‮ ‬في‮ ‬جو‮ ‬العلوم‮ ‬منيرة‮ ‬
ولكن‮ ‬عيبي‮ ‬أن‮ ‬مطلعي‮ ‬الغرب‮ ‬
 
لقد‮ ‬ادخر‮ ‬الله‮ ‬ـ‮ ‬عز‮ ‬وجل‮ ‬ـ‮ ‬نشر‮ ‬هذا‮ ‬الكتاب‮ ‬القيم‮ ‬وتحقيقه‮ ‬للأستاذة‮ ‬الفاضلة‮ ‬حفيظة‮ ‬بلميهوب‮ ‬بعدما‮ ‬قبر‮ ‬قرونا‮ ‬عديدة‮ ‬وكاد‮ ‬يُفقد‮ ‬كما‮ ‬فقد‮ ‬كثير‮ ‬من‮ ‬آثار‮ ‬علمائنا‮ ‬بسبب‮ ‬إهمالنا‮. ‬
إن‮ ‬الأستاذة‮ ‬الفاضلة‮ ‬‭-‬‮ ‬بعملها‮ ‬هذا‮ ‬‭-‬‮ ‬قد‮ ‬أحيت‮ ‬عالما‮ ‬جليلا،‮ ‬ونشرت‮ ‬علما‮ ‬نافعا‮ ‬مفيدا،‮ ‬فجزاها‮ ‬الله‮ ‬عن‮ ‬ذلك‮ ‬خير‮ ‬الجزاء‮. ‬
لقد ردت الأستاذة الفاضلة بعلمها هذا ردا عمليا على أولئك “العلماء” الذين ضيقوا ما وسعه الله ـ عز وجل ـ وقيدوا ما أطلقه الله ـ سبحانه وتعالى ـ وما تقولوه على الإسلام عندما كذبوا على رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ بتقويله كلاما ليس عليه نور النبوة ولا هدي الإسلام،‮ ‬وهو‮ “‬لا‮ ‬تُنزِلوهن‮ ‬الغرف‮ ‬ولا‮ ‬تعلِّمُوهُن‮ ‬الكتابة‮”‬،‮ ‬وكتب‮ ‬أحدهم‮ ‬كتابا‮ ‬في‮ ‬هذا‮ ‬الأمر‮ ‬سماه‮ “‬الإصابة‮ ‬في‮ ‬منع‮ ‬النساء‮ ‬من‮ ‬تعلم‮ ‬الكتابة‮”. ‬وهذا‮ ‬ما‮ ‬سماه‮ ‬الدكتور‮ ‬ماجد‮ ‬عرسان‮ ‬الكيلاني‮ “‬الوأد‮ ‬التربوي‮” ‬في‮ ‬كتابه‮ “‬مقومات‮ ‬الشخصية‮ ‬المسلمة‮” (‬ص‮ ‬24‮).‬
ومما يحضرني هنا ذلك الرّد المفحم للإمام محمد البشير الإبراهيمي على الذين حرّموا على المرأة – بسقم فهمهم – ما أوجبه الله – عز وجل-  ورسوله عليه الصلاة والسلام – عليها من تحصيل العلم، وقد جاء الرد الإبراهيمي في قصيدة بعثها إلى بعض علماء السعودية ومنها:
 
وإنها‮ ‬إن‮ ‬أهمت‮ ‬كان‮ ‬الخطر
وإنها‮ ‬إن‮ ‬علّمت‮ ‬كانت‮ ‬وزر‮ )‬‭*‬‮(‬
ومنعها‮ ‬من‮ ‬الكتاب‮ ‬والنظر
والفضليات‮ ‬من‮ ‬نسا‮ ‬صدر‮ ‬غبر
وانظر‮ ‬هداك‮ ‬الله‮ ‬ماذا‮ ‬ينتظر
ومن‮ ‬يقل‮ ‬في‮ ‬علمها‮ ‬غيّ‮ ‬وشر
 
كان‮ ‬البلا،‮ ‬كان‮ ‬الفنا،‮ ‬كان‮ ‬الضّرر
أولا‮ ‬فوزو‮ ‬جالب‮ ‬سوء‭ ‬الأثر
لم‮ ‬تأت‮ ‬فيه‮ ‬آية‮ ‬ولا‮ ‬خبر
لهن‮ ‬في‮ ‬العرفان‮ ‬ورد‮ ‬وصدر‮ )‬‭**‬‮(‬
من‮ ‬أمة‮ ‬قد‮ ‬شل‮ ‬نصفها‮ ‬الخدر
فقل‮ ‬له‮: ‬هي‮ ‬مع‮ ‬الجهل‮ ‬أشر‮ 1

إنني أشهد للأستاذة حفيظة بالعزم الشديد، والإرادة القوية وهما سلاحاها في مواجهة ما اعترضها من صعوبات، وفي إزاحة ما لقيته من عراقيل ومثبطات، ومنها على سبيل المثال انتظارها حولين كاملين للحصول على نسخة من مخطوط “المتجر الربيح..” من الخارج .. ولو كانت الثقافة أحد اهتمامات وزارتنا للشؤون الخارجية لعلمائنا بتصوير تلك المخطوطات وإرسال تلك الأفلام إلى المكتبة الوطنية والمكتبات الجامعية ليجنّب الطلاب – والطالبات بصفة خاصة – أتعاب السفر، ومصاريف الإقامة والتصوير، وما هي بالقليلة.
لقد سبق للأستاذة حفيظة أن أحيت عالما جزائريا آخر هو الإمام أبو زيد عبد الرحمن الوغليسي البجائي (ت 786 هـ / 1384 م)، ونشرت أحد آثاره وهو : “المقدمة الوغليسية” ، وما أظن الأستاذة إلا ماضية في هذه السبيل الشاقة المجهدة، فسدد الله خطاها، وأمدّها بما يهوّن عليها‮ ‬تلك‮ ‬المشقة،‮ ‬ونفع‮ ‬بها‮.‬
 
هوامش 
‭*‬‮) ‬الوزر‮: ‬بفتح‮ ‬الواو‮ ‬والزاي‮ ‬هو‮ ‬الملجأ،‮ ‬والوزر‮: ‬بكسر‮ ‬الواو‮ ‬وسكون‮ ‬الزاي‮ ‬هو‮ ‬الإثم‮ ‬والثقل‮.. ‬مختار‮ ‬الصحاح‮: ‬مادة‮ : ‬وزرر
**) للأستاذة آمال قرداش (من مدينة باتنة) كتاب يحمل عنوانا لافتا هو “دور المرأة في خدمة الحديث في القرون الثلاثة الأولى”، أي في “خير القرون” كما قال سيدنا محمد – عليه الصلاة والسلام – ، وللأستاذ صالح يوسف معتوق كتاب عنوانه: “جهود المرأة في رواية الحديث” (القرن‮ ‬الثامن‮ ‬الهجري‮)‬،‮ ‬فكيف‮ ‬يأتي‮ ‬الآن‮ ‬من‮ “‬يتفيقه‮” ‬ويحرم‮ ‬على‭ ‬المرأة‮ ‬أداء‮ ‬واجبها‮ ‬في‮ ‬طلب‮ ‬العلم؟‮!‬
1‮) ‬آثار‮ ‬الإمام‮ ‬الإبراهيمي‮ ‬ج4‮ ‬ص‮ ‬133

مقالات ذات صلة