جمعية العلماء… وروح الوطن
عندما تعرج إلى السّماء، إلى عالم الطهر والصفاء، روح زكيّة طاهرة، هي روح عالم ما، يحدث بذلك العروج، في الوطن رجّة، وبين صفوف المواطنين ضجّة.
فالعلاقة بين الرّوح والطهر والسّماء، هي نفس العلاقة بين العالم، والوطن، والنّماء وأقول هذا، والأرض العربية المسلمة، تميد بنا، فتهتزّ الأرض من حولنا، بسبب الحروب الدموية الدائرة في وطننا العربي الكبير بدء بليبيا بجانبنا، إلى اليمن من حولنا. إنّها كلّها مظاهر عنف تودي كلّ ساعة بالأرواح البريئة، من كلّ الفئات، وكلّ الأعمار.
لقد كان حري بي أن أتناول في هذه الافتتاحية، واقع الأمّة الدموي المتأزّم، ولكنّ قناعتي الخاصّة أنّ داء الوطن العربي، قد أصبح من التعقيد والتأزّم بحيث لم تعد تكفي فيه مقالة في ورقة، ولا موعظة أو خطبة أو صدقة.
فشل السّاسة والعسكريين في وطننا العربي والإسلامي في الرّسو بالوطن والمواطن على مرفإ الأمن والسّلام، لأنّهم فقدوا جميعًا مقوِمات روح هذا الوطن، واستبدّ بهم هاجس الحكم، ولو على أجساد الأبرياء.
لقد كان الأمل يحدونا في أنّ العلماء في هذا الوطن العربي الإسلامي _وهم روح الوطن– أن يكونوا من الحضور الفاعل والمؤثر في السّاحة، بما يؤهلهم من فرض حكمهم على السياسيين والعسكريين، والمواطنين على حدّ سواء، إلى الحدّ الذي يجعلهم دعاةً صادقين عادلين. غير أنّ اشتغال العلماء في بعض البلاد العربية بالسياسة والاحتماء بجناح السلطة فيها، وتحوّلهم إلى أبواق نافخين في كير السياسيين والعسكريين قد ضيّع عليهم المكانة التي بوّأهم الله إيّاها حين قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} الحجرات11، وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}الزمر9.
إنّ هذه المعاني _كلّها– قد حضرت وأنا أهّم بكتابة هذه الأسطر، واستعراض عوامل الخطورة في السّاحة السياسية لأطِّل من خلال تشخيصها ومعالجتها على القارئ الكريم عساني أقدّم له ما يمكن أن يخفف من روعه، وأن يكون بردًا وسلامًا على قلبه وعقله.
غير أنّ اليأس دأب إليَّ في جانب الواقع العربي، فأثرت أن ألوذ بالواقع الجزائري من خلال واقع العلماء، لعلّنا نجد في هذا الواقع ما من شأنِه أن يطفئ اللّوعة ويهدي الرّوعة، ولعلّه يشعل شمعة.
فعلى العكس مما يسود الوطن العربي والإسلامي من حيرة، ويأس، نجد في الجزائر الجذوة التي وضع معالمها الماهدون الأوّلون من العلماء المجاهدين، هي التي ما تزال تمثّل الملهِم لنا في تجاوز عتمة الظلمة، والتطلّع إلى بناء مستقبل –بالرّغم من كلّ الضبابية– التي تسوده يتسّم بالحكمة والنّعمة.
فلقد علّمنا ابن باديس والذين معه أنّ العالِم هو روح الوطن، فهو الذي ينفخ في الوطن من روحه، معنى الذود عن الحق الوطني، وبثّ الوعي الظاهري والباطني، والجهر بالحكم الديني، ضدّ كلّ ظلم واستبداد خفي وعلني.
لقننا هذا، الإمام عبد الحميد بن باديس حين صاح في وجه الجميع: “لو قالت فرنسا قل لا إله إلاّ الله ما قلتها“. وأوحى إلينا الإمام محمد البشير الإبراهيمي حين ألّح على حكمه قائلاً: “إنّ الاستعمار شيطان و{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} فاطر6.
من وحي هذه الدروس والعبر، ندرك أننا، عندما نفقد عالِمًا جزائريًا في الساحة العلمية، إنّما نحسّ بفجوة كبيرة يصعب ملؤها، وبصدع خطير يصعب ردعه، فكيف إذا كان المفقود في مستوى عالمين جليلين هما الشيخ محمد الأكحل شرفاء، والشيخ عمار مطاطلة.
فالشيخان الجليلان نهلا من معين ابن باديس وينبوع جمعية العلماء، فظلا، كلّ بأسلوبه ومنهجه، وفيين لروح ابن باديس، التي هي روح الوطن، ينفخان بها في إنهاض الشعب من سباته، ومحاولة الحيلولة دون مماته، والعمل على تعزيز مكوناته ومقوّماته.
إنّ كلاً من الشيخين شرفاء ومطاطلة قد تركا بصماتهما في العمل الإسلامي بالخطاب الديني، الدقيق والعميق، والمتصل والمعتدل، والمكافح والمنافح تشهد لهما بذلك المدارس التي كانت للجيل مغارس والمساجد التي كانت نوادي ومعاهد، ووسائل الإعلام التي كانت مبدّدة للظلام، وما كان ذلك ليتحقق لولا أنّ جمعية العلماء التي هي غرس ابن باديس قد أخذت العهد على نفسها بأن تبقى وفيّة للثوابت الحقيقية وهي الإسلام، والعربية، والجزائر العميقة.
ومهما يُقال، ومهما يُثار من لغط، فإنّ جمعية العلماء اليوم، التي فقَدت اليوم الشيخين شرفاء ومطاطلة قد أخذت على نفسها مواصلة حمل المشعل الباديسي، وهي لن تهاب ولن تلين في الدفاع عن الحق، أيًا كان الترهيب أو الترغيب.
إنّ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ستظلّ هي روح هذا الوطن، نحمي روحه من كلّ آفة، ومن كلّ تلوّث، ومن أيّ داء يفقد هذه الرّوح مناعتها.
ولقد ذكرتني بهذه الحقيقة الثابتة النبيلة مواطنة صالحة مثقفة، تعمل موثقة في مدينة الجزائر. إنّ هذه الأستاذة الفاضلة التي جمعيتي بها الصدفة في مكتب من المصالح العقارية في حي بئر مراد رايس بضواحي العاصمة حين تقدّمت من بواب المصلحة أسأله عن مصلحة استخراج وثيقة ما، فصاح بخشونة جزائرية ممقوتة، وبفضاضة وغلظة “إنّ هذا اليوم ليس يوم استقبال، عد غدًا” فأجبته بابتسامة مريرة: “وما هو الفرق بين اليوم والغد؟“.
كان هذا أمام مرأى ومسمع الأستاذة الموثقة الكريمة، فصاحت فيه قائلة: “ألا تعلم من تخاطِب بهذه الفضاضة؟ ألم تسمع بابن باديس الذي هو روح الوطن؟ إنّ هذا هو خليفته“.
أدركت حينها أنّ بعض الوعي قد بدأ يدّب إلى شعبنا، ولا عبرة بفضاضة البوّاب، فهو لا يعدو أن يكون مسمارًا في باب والعاقبة لأولي الألباب.