-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ماذا لو بعث اليوم كل من شوقي وابن باديس؟!

حمزة يدوغي
  • 1369
  • 5
ماذا لو بعث اليوم كل من شوقي وابن باديس؟!

قال أمير الشعراء، أحمد شوقي عن الجزائر التي مر بها عام 1904، عائدا من فرنسا “لا عيب فيها سوى أنها مسخت مسخا، فقد عهدت مساح الأحذية فيها يستنكف عن الحديث بالعربية، وإذا خاطبته بالعربية فلا يجيبك إلا بالفرنسية”.

وبعد وفاته، أقامت له جمعية المسلمين الجزائريين سنة 1934 في نادي الترقي حفل تأبين، ألقى خلاله الإمام عبد الحميد بن باديس كلمة جاء فيهافأعجب لمن يستدل على حال أمة بكاملها بمساح الأحذية فيها؛ فلو رأى شوقي حفلنا هذا من عالم الغيب لكان له في الجزائر رأي آخر!”.

وصدق ابن باديس، فالإمام محمد عبده مثلا الذي زارها بعد شوقي بسنة واحدة عام 1905، كان له فيهارأي آخر، لأنه زارها بنفسية العالم الداعية المصلح المهتم بشؤون المسلمين أينما كانوا، لا بنفسية السائح المتجول المتفرج؛ فقد اتصل بنخبة من علمائها الذين أطلعوه على حقيقة الوضع فيها، فاطمأن عليها ورجع إلى مصر وهو موقن بأن الجزائريين سيتحررون من الاستعمار الفرنسي عاجلا أو آجلا، لأنه يعلم أن شر ما يصيب الشعوب والأمم في تقلب حياتها مع الأيام ليس هزيمة عسكرية تضيع معها الأرض بما في باطنها من ثروات وبما فوقها من عمران؛ فتلك هزائم مؤقتة في عرف التاريخ، زائلة مهما يمتد بها الزمان؛ لكن شر ما يصيب الشعوب والأمم هزيمة نفسية تجعلها تستهين بمقومات شخصيتها وتضعف تواصلها عبر الأجيال فتذوب في شخصية الغالب، وذلك هو القبر الذي لا نشور بعده!. وهذا ما لم تعرفه الجزائر! وهذا ما طمأن الإمام محمد عبده بالرغم مما لمسه خلال إقامته فيها وبين أهلها من ضيق شديد، فقد حورب فيهم الإسلام وحوربت فيهم العربية وحورب فيهم التاريخ وأحصيت على علمائها خطواتهم بل أنفاسهم، وحيل بينهم وبين المشرق ليسهل تنفيذ مخططات التذويب التي تعاون عليها رجال السياسة والكنيسة والجيش  لتحقيق ذلك الوهم، الزاعم بأن الجزائر قطعة من أرض الغال مسيحية الدين فرنسية اللغة!

فابن باديس عندما قاللو رأى شوقي حفلنا هذا من عالم الغيب لكان له في الجزائر رأي آخر!”، كان يقصد هذه الحقيقة الناصعة التي لم يدركها شوقي في عجالته؛ وهي أن الجزائريين تشبثوا بمقومات شخصيتهم من دين ولغة وتاريخ وبكل ما يتغذى به وجدانهم الأصيل، بدءا بالمعجم اللفظي المتداول إلى العادات والتقاليد وأنماط العيش، مما يدخل كله تحت عنوانالمقاومة الثقافية“!

هذه المقاومة التي قامت بها الزوايا بعد أن خمدت المقاومة المسلحة وخفت صوتها وإن لم تتوقف نهائيا ـ كما نعلم جميعا ـ فحفظت للجزائر دينها ولغتها وتاريخها ومكنتها من الصمود بل ومن التحدي!

وسر قوة تلك المقاومة الثقافية وشدتها، يكمن في العقيدة الإسلامية التي سكنت أعماق وجدان المجتمع الجزائري، وإننا نجد في تراثنا الشعبي الذي صنعته تلك الحقبة الاستعمارية من المواقف ما يؤكد هذه الحقيقة، كما نجد ذلك في السلوك العفوي التلقائي الذي توجهه هذه العقيدة المتمكنة من الضمائر والنفوس! ولعل من المناسب أن أسوق هنا مثالا أو نموذجا من هذا السلوك العفوي الذي ينطوي على معان جليلة عميقة جديرة حقا بالاهتمام وحسن الاعتبار والتقدير؛ كانت عجوز في إحدى القرى تستمتع إلى حديث أحد أقاربها الذين رجعوا منالحاضرةأي المدينة، بعد أن مكث فيها أياما، وكان يعدد على الحضور الأعمال الخيرية الكثيرة التي يقوم بها أحدالروميينمن رجال الكنيسة المبشرين؛ فقال إنه أنقذ عددا كبيرا من المرضى بإسعافهم بالدواء وآوى عددا معتبرا من المحتاجين ولا يقصده أحد من الجزائريين في حاجة إلا رجع من عنده مسرورا وقد قضى له تلك الحاجة، وهو إلى جانب ذلك كله لا يفتأ يدعو الجميع إلى المحبة لأن اللهكما يقولمحبة!

فلما سمعت العجوز هذا الكلام قالتخسارة.. هذا الرجل يذهب إلى النار!”.

إن هذه المقاومة الثقافية للاحتلال هي التي ستشكل الأرضية الصلبة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وتنطلق منها لتحقيق برنامجها الإصلاحي والاجتماعي عن طريق الصحف والمدارس والنوادي، تبث الوعي الديني الصحيح وتدعو إلى التسلح بالعلم ومواكبة روح العصر وتنشئة الجيل على القيم الدينية والوطنية وتهيئته لخوض معركة المصير والتحرر من الاستعمار!

لقد كان كره فرنسا ومعاداة كل ما يمت إليها بصلة، يسكن كل جزائري وجزائرية، لسان حالهم جميعا قول الشاعر:

الله يعلم لو أردت زيادة   

في كره فرنسا ما وجدت مزيدا!

ولقد عبر ابن باديس في إيجاز معجز عن هذا الكره بقولته المشهورةوالله لو قال لي الاستعمار قل لا إله إلا الله ما قلتها!”.

وهذا عبد الحليم بن السماية الذي رافق الإمام محمد عبده خلال زيارته تلك، يأتيه شاب يقول له: لقد ارتكبت كثيرا من المعاصي والآثام، وإني تبت الآن، ولكن لا أعرف وردا أو ذكرا أو دعاء ألزمه ليغفر الله لي، فقال له:  سُبّ فرنسا ولا تتوقف عن سبها يغفر الله لك!”

هذه الرواية أخذتها عن الأخ الكريم الأستاذ محمد الهادي الحسني الذي يُعني ـ مشكورا ومأجورا إن شاء الله ـ بمثل هذه الشخصيات الجزائرية العظيمة والمغمورة! مع الأسف الشديد!

واليوم؟! ماذا لو بعث اليوم كل من شوقي وابن باديس؟!

فلو بعث شوقي ومكث أياما في الجزائر وشهد ما تعانيه العربية فيها من غربة، وهو من هو في إدراك قيمه اللغة في حياة الأمة وعلاقتها بالتاريخ والتراث والأدب والفن والوجدان والذوق، قبل ذلك كله بالعقيدة؛

ماذا كان يقول لو سمع بأذنيه ورأى بعينيه مسؤولين جزائريين يخاطبون شعبهم بلغة المستعمر بعد نصف قرن من الزمن، بل ماذا يقول وهو يستمع إلى بعض هؤلاء المسؤولين وهو يتحدث إلى الشباب ويحثهم على التمسك بمقومات شخصيتهم وعناصر هويتهم من دين ولغة وتاريخ وهو يعبر عن ذلك كله.. بالفرنسية؟! إنهاالعبثيةبعينها!

لعل شوقي حينئذ ينظم قصيدة يرثي بها الفصحى في الجزائر تكون أكثر أسى وحزنا من قصيدته الشهيرة في نكبة دمشق!

وأما ابن باديس الذي كتب يوما عن الإسلام الوراثي والإسلام الذاتي، فإنه لو بعث لكتب بالدمع لا بالحبر عنالمسخ الذاتي!”

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • نصرو الجزائري

    وهل كان بن باديس وشوقي منزهان عن الخطا فالاول كان مخدرا بالعروبة بدل العربية والثاني مصري بعثي واجندتهم معروفة مع كل الاحترام لرموزنا الفكرية واللاسلامية

  • نصرو الجزائري

    يعطيك الصحة

  • MOURAD

    .- اكمل- الله تعالى كرم بني أدم و جعله سيدا على كل خلائقِه بينما ثقافتنا التي تسمى العربية الإسلامية جعلت من هذا إنسان نكرة دائم الإحساس بالذنب تلاحقه ذنوبه في كل مكان . إذا أردنا أن نبني إنسانا سويا و متزنا فيجب ترسيخ ثقافة ما يسمى self esteem أو Estime de soi. معنى ذلك ترسيخ مفهوم جعل الإنسان هو المحور في كل شي وشحن مفهوم المسؤلية عند الفرد و ما يترتب عنها لأنه المسؤول الأوحد عن أعماله أمام خالقه.

  • MOURAD

    و من يكن شوقي أو ابن باديس لكي لو بعث اليوم لكتب كذا أو قال شعر كذا... ألسنا بشرا مثلهم. ومن هم لكي يحكموا علينا . بين أكبر مصائب ثقافتنا العربية الإسلامية هي ثقافة كره الذات و إحتقارها و هذا سبب الإحباط frustration عموما عند الإنسان العربي. فكثيرا ما نسمع في ثقافتنا مثلا...و من نحن أمام هؤلاء الذين كانوا كذا و كذا ... زِد على ذلك التسلط (الابوي, الرجولي, السياسى.... ) ماذا تنتظر من إنسان يتربى و يكبر على هذا مبدأ من نكران الذات و إحتقارها و كيف تريد أن يٌجعل منه إنسانا سويا .

  • البشير بوكثير

    لافضّ فوك أستاذ..