السكنات.. للمحتاجين أم للمحتالين؟
لا شك أن بناء مليون سكن كل خمس سنوات هو أمرٌ محمود ومن الإنصاف الإشادة به وتثمينُه، ومن حق السلطة أن تفخُر به؛ إذ أنها المرة الأولى منذ الاستقلال التي يُبنى فيها هذا العدد المعتبر من المساكن، لكن المشكلة لا تكمن في قلة السكنات في واقع الأمر، بدليل أن الحظيرة الوطنية للسكن تحتوي الآن على نحو 7.5 مليون سكن، وهو عددٌ معتبر قد لا تجده في دولة عربية أخرى، ولكن أزمة السكن لاتزال قائمة بحدّة وتتفاقم من عام إلى آخر، حتى أن وزير القطاع تبُّون صرَّح منذ أيام بأن هناك ملايين التسجيلات في الموقع الالكتروني لـ”عدل” للظفر بسكن.
المشكلة الحقيقية تكمن في سوء توزيع السكنات المنجَزة وطغيان عوامل المحسوبية والمحاباة والقرابة واستغلال النفوذ.. على عامل الحاجة والاستحقاق، فأصبح قسط وافرٌ من سكنات المحتاجين يذهب إلى المحتالين للمتاجرة بها، سواء كانوا من النافذين أو حتى من المواطنين البسطاء الذين “يحترفون” بناء أكواخ قصديرية بهدف الحصول على سكنات اجتماعية، ثم يقومون ببيعها والعودة إلى أكواخهم وانتظار”موجة” ترحيل جديدة.
وبالنتيجة، أصبحت الجزائر تحصي مليون سكن شاغر، ومئات الآلاف، وربما الملايين، من السكنات المعروضة للبيع أو الإيجار في مختلف مناطق الوطن وبخاصة في العاصمة والمدن الكبرى، ما يعني أن أصحابها ليسوا بحاجة إليها، والكثيرُ منهم حصل عليها بطرق ملتوية، وهم يتخذونها مصدرا ممتازا للريوع وتحقيق الثراء على حساب الكادحين الذين استولى هؤلاء على حقهم في الحصول على سكن، ولا أعمِّم في هذه الحالة فهناك من حصل على حقه في شقة ثم تحسنت ظروفه وبنى سكنا فرديا وانتقل إليه ووضع شقته القديمة للبيع أو الإيجار.
لو أحسنت السلطات تسيير هذا الملف وكان نصيبُ المحتاجين إلى السكن أكثر من نصيب المحتالين الانتهازيين الباحثين عن استفادات متعددة لتوسيع دائرة ريوعهم ومكاسبهم، لما كانت أزمة السكن بهذه الحدّة الآن، ولما خرج الناسُ يتظاهرون ويحتجّون فور توزيع كل حصة سكنية جديدة تقريباً، حتى أصبح الكثيرُ من المجالس الشعبية البلدية يجمّد عملياتِ التوزيع خوفاً من ردود الفعل الساخطة. لقد كبُرت الأزمة ككرة الثلج المتدحرجة وأصبح حلُّها بالغ الصعوبة، وأضحت مصدراً للقلاقل وتغذية الاضطرابات الاجتماعية وتصاعُد السخط والاحتقان..
وإذا كانت السلطات تريد إيجاد حلٍّ لهذه الأزمة المستعصية، فيجب أن تركز على عامل العدل في التوزيع أكثر من تركيزها على بناء المزيد من السكنات، فما فائدة بناء ملايين السكنات إذا كان الكثيرُ منها سيُوزع بطرق ملتوية غامضة ويكون للنافذين والمحتالين، بمختلف أصنافهم، نصيبٌ وافرٌ فيها على حساب المحتاجين الحقيقيين؟
المحتاج إلى سكن يقبل أن يذهب السكن الذي كان يتطلع إلى الحصول عليه، إلى محتاج آخر مثله، أما أن يذهب إلى انتهازي محتال أو صاحب نفوذ أو أحد أقاربه أو معارفه دون أن يكون مستحقا له، فذلك ما لا يمكن قبوله، وهذا هو سبب تفاقم الاضطرابات الاجتماعية بعد عمليات التوزيع، ولعل حل هذه الاضطرابات المتجددة لا يكون بإخراج الشرطة للتصدي للمتظاهرين؛ فالعلاج الأمني للمشكلات الاجتماعية غير ناجع..العلاجُ الحقيقي ينبغي أن يبدأ من العدل في التوزيع، ولعل الإسراع في استحداث البطاقية الوطنية للسكن، إذا صدقت العزائمُ والنيّات، سيضع الأسس الصحيحة لعلاج هذه الأزمة الخطيرة.