-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الثورة الجزائرية تحمل مشروعا متكاملا

بقلم: د. رابح لونيسي
  • 548
  • 0
الثورة الجزائرية تحمل مشروعا متكاملا

تحمل الثورة الجزائرية مشروعا متكاملا يستهدف بناء مجتمع ونظام جديد، وهو ما يظهر بجلاء في مواثيقها، ومنها نداء أول نوفمبر الذي يعد البيان التأسيسي للدولة الوطنية، وكذلك أرضية الصومام الذي هو شرح وإثراء لنداء نوفمبر الذي جاء مقتضبا، ويمكن أن نضيف إليهما ميثاقي طرابلس 1962 والجزائر 1964 والميثاق الوطني 1976 و1986، فقد ركزت كل هذه المواثيق بنسب متفاوتة على البعد الاجتماعي الذي نص عليه نداء نوفمبر وأرضية الصومام، أو ما سمي صراحة بـ”الاشتراكية” المقصود بها العدالة الاجتماعية، فهو أمر طبيعي أن تكون هذه الفكرة هي المسيطرة على النخب الوطنية بحكم أن ثورة نوفمبر تعود جذورها إلى التيار الاستقلالي المتمثل في نجم شمال إفريقيا الذي أسسه مهاجرون في فرنسا في 1926 بعد احتكاكهم بمختلف الأفكار الأوروبية، وخاصة اليسارية منها. وغير النجم اسمه إلى حزب الشعب الجزائري في 1937 ثم حركة الانتصار للحريات الديمقراطية في 1946 الذي أنشأ المنظمة الخاصة التي هي منظمة شبه عسكرية مهمتها التحضير للعمل المسلح، ومن هذه المنظمة والتنظيم الاستقلالي انبثقت جبهة وجيش التحرير الوطنيان، فكل مفجري الثورة ينحدرون من المنظمة الخاصة التي أنشأتها الحركة من أجل الانتصار للحريات الديمقراطية، ولم تلتحق جماعة فرحات عباس وجمعية العلماء وغيرهم بالثورة إلا في ما بعد، فبحكم هذه العوامل سيطر الفكر اليساري على التنظيم الاستقلالي ومفجري الثورة، مما يفسر لنا غلبة فكرة الاشتراكية على كل المواثيق التي عرفتها الجزائر من 1962 حتى 1988، لكن يمكن أن يقول البعض إن كانت الاشتراكية أو العدالة الاجتماعية هي الغالبة على هذه النخب، فمعناه أن ثورتنا لم تأت بأي جديد، فلنعد إلى نداء نوفمبر وأرضية الصومام لنرى مدى صحة ذلك.

من أهم المبادئ والأسس التي وردت في نداء نوفمبر وأرضية الصومام نجد “إقامة دولة جزائرية ديمقراطية واجتماعية ذات سيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية” مع “احترام الحريات الأساسية دون أي تمييز عرقي أو ديني”، وهذا المبدأ الأخير هو ما يعرف اليوم بمبدإ المواطنة في الدول الديمقراطية الكبرى، كما توضح أرضية الصومام نداء نوفمبر كي لا يكون أي التباس، وخوفا من أن يأتي مستقبلا من يستغل فكرة “ضمن إطار المبادئ الإسلامية”، ويعطيها مفهوما آخر، فيقول بأن المقصود بها هو “دولة دينية”، وهو يستحيل أن يقوله مفجرو هذه الثورة المتأثرون في غالبيتهم إن لم نقل جلهم باليسار والحداثة التي كانت قوية جدا داخل التيار الاستقلالي الذين كانوا فيه دون أن يتخلوا عن الاعتزاز بدينهم وهويتهم الإسلامية، فلهذا أصرت أرضية الصومام على شرح ذلك بالتلميح بأنه ليس معناه “دولة ثيوقراطية”، أي دينية.

يلاحظ القارئ لنداء أول نوفمبر في نسخته الأصلية أن هناك خطأ قد وقع عند ترجمته من الفرنسية إلى العربية، ومنها الإهمال أو التناسي العمدي بعدم ترجمة et إلى حرف الواو، فبدل ما نقرأ “ديمقراطية واجتماعية” نقرأ بالعربية “ديمقراطية اجتماعية”، وهما دلالتان مختلفتان، ويبدو أنها ترجمة محرفة ومقصودة استهدفت إيجاد شرعية للأحادية في 1962 بدل المزج والجمع بين العدالة الاجتماعية والديمقراطية المتعارف عليها عالميا بتعدديتها وحرياتها.

يرى البعض بأن هذه المبادئ ليست جديدة، فقد طرح الغرب بعضها، كما أن المبادئ الإسلامية ليست جديدة بالنسبة إلى المسلمين، لكن لو عمقنا النظر في النداء وأرضية الصومام، نجد أنها أفكار جديدة لم تطرح من قبل بهذا الشكل، فالنداء والأرضية لم يقولا بالديمقراطية وحدها أو العدالة الاجتماعية وحدها، بل مزج وربط بينهما، فحسما بذلك في النقاش السائد في الخمسينيات بين الديمقراطيين في البلاد الرأسمالية والماركسيين في الدول الشيوعية، أين يتهم الديمقراطيون الأنظمة الشيوعية بالشمولية بتركيزها على حل المشكلة الاجتماعية على حساب الحريات السياسية للفرد، أما الشيوعيون فيعتبرون أن الديمقراطية في العالم الرأسمالي هي ديمقراطية برجوازية استغلالية تتحكم فيها طبقة محدودة في قوت الشعب.

لكن حل نداء أول نوفمبر وأرضية الصومام هذه الإشكالية التي ما زالت مطروحة إلى حد اليوم: لمن الأولوية للديمقراطية وللحقوق السياسية أم للعدالة والحقوق الاجتماعية؟ وكأنه لا يمكن لنا أن نجمع الاثنين في الوقت نفسه، لكن النداء والأرضية جمعت الاثنين بالقول “ديمقراطية واجتماعية”، ونعتقد أن تفكير واضعي النداء والأرضية نابع من إدراكهم استحالة ضمان الحريات الديمقراطية دون مرافقتها بالعدالة الاجتماعية وخدمة المحرومين، كما لا تتحقق هذه العدالة دون حريات وديمقراطية، لكن يحتاج هذا المبدأ الجديد إلى تفكير جدي لوضع الميكانيزمات العملية والمؤسساتية لتجسيده على أرض الواقع، فيكون بذلك نظاما جديدا بديلا لكل من الشيوعية و”الديمقراطية الرأسمالية” كما يسميها الأمريكي آل غور في كتابه “المستقبل”.

أما فكرة “ضمن إطار المبادئ الإسلامية”، فهي تحمل دلالات عميقة لو عرفنا كيف نوظفها لإنهاء الفتن الدينية والطائفية التي نعيشها، فقد حلت مشكلة التوفيق بين الأصالة والمعاصرة التي يعاني منها المسلمون اليوم، فقولنا بالممارسة “في إطار المبادئ الإسلامية”، ليس معناه “دولة إسلامية” كما روج، ويروج البعض من الذين يريدون استغلال نداء نوفمبر وتحويله إلى رأسمال رمزي لهم، وقد وضحت أرضية الصومام هذه الفكرة الواردة في النداء بالقول: “نريد إقامة دولة ديمقراطية واجتماعية، وليست ثيوقراطية”، فلم تحمل هذه الفكرة إلا معنى دقيقا ومحددا، وتعني الاستلهام من قيم الإسلام وأخلاقه وروحانيته ومبادئه الكبرى والعمل في إطارها دون أي تضييق على الفرد والمجتمع، مما يسمح لنا بدخول الحداثة دون التخلي عن هويتنا الحضارية الإسلامية.

حلت هذه الفكرة مشكلة مازال يعاني منها المسلم المعاصر إلى حد اليوم، وهي مشكلة التوفيق بين ما تتطلبه الحياة المعاصرة وما تشترطه قيم الإسلام ومبادئه، فقولنا بالممارسة في إطار المبادئ الإسلامية، ليس معناه “دولة إسلامية” أو ما سمتها أرضية الصومام بـ”الثيوقراطية” المرفوضة من الجزائريين، فلم تحمل هذه الفكرة إلا معنى دقيقا ومحددا يتمثل في إمكانية المسلم أن يمارس حياته بكل حرية، كما بإمكانه الاستعانة بالمنظومات القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أنتجها عقل الإنسان أينما وجد، لكن شريطة أن تكون فعالة، ولا تناقض المبادئ العامة للإسلام، لكن فلنسجل أن هذه المبادئ العامة للإسلام قد توصل إليها العقل البشري اليوم بشكل عام، مما يثبت صحة طرح ابن رشد بعدم التناقض بين العقل والشريعة.

فما يمنع المسلم أن يعيش عصره بكل مستجداته مع الالتزام بعبادته لله وبأركان وأخلاق الإسلام، فدلالة هذه الفكرة هي العيش في إطار تلك المبادئ الكبرى المنصوص عليها في القرآن الكريم، وليس معناه النظر في كل قضية هل هي حلال أم حرام وإدخالنا في جدالات عقيمة وفي حلقة مفرغة، فنضيق بذلك على أنفسنا مثلما ضيق بنو إسرائيل على أنفسهم عندما أمرهم الله بذبح بقرة (أي بقرة)، لكنهم بحثوا في تفاصيلها، فهذا المشهد القرآني يتكرر يوميا عندنا بالتضييق على الإنسان المسلم وتعقيد دينه البسيط واضح المعالم، فقد بينت الدراسات الاجتماعية أن المتدين كلما كان أكثر انفتاحا على العالم كان أكثر تقدما، وكلما كان منغلقا ومضيقا على نفسه كان أكثر تخلفا، فلنلاحظ العالم المسيحي فقط، فالبروتستانت المتفتحون كاالأمريكيين والألمان والإنجليز مثلا هم الأكثر تقدما والأرثوذكس مثل اليونان والصرب والروس مثلا هم الأكثر تخلفا.

إن هذا المبدأ الجديد الذي أتت به ثورتنا له جذور فكرية في تراثنا الفقهي الإسلامي المغاربي، فهي تشبه فكرة الظاهرية لابن حزم الأندلسي في القرن 11م، التي تنطلق من مبدإ أن الحلال والمباح هو الأصل في كل شيء، وما لم يكن نص صريح بتحريم أمر ما فهو مباح للمسلم، ولو يطبق هذا المبدأ الذي يشبه ما طرحه نداء نوفمبر، فمعناه يتخلص المسلم نهائيا من فكر وفقه جامد يعرض كل ما يطرأ من جديد على المسلم على ميزان الحلال والحرام، الذي تتحكم فيه عادة عقلية الفقيه وثقافته ومصالحه وغيرها من العوامل الذاتية والموضوعية، فكم حرمت من أمور تبين لنا بعد زمن أننا كنا مخطئين فيها. فلو أخذنا بالظاهرية كما طرحها ابن حزم ثم نضيف إليها الموافقات والمقاصد الإسلامية التي وضعها الشاطبي، لجعلت المسلم متفتحا على العالم المعاصر دون أي حذر أو عقد، ويمكن لنا القول في الأخير إن نداء نوفمبر قد وضح وبسط فكرة الظاهرية للمسلم المعاصر، بل لخص في جملة ما توصل إليه المفكر عابد الجابري الذي دعا بعد بحث عميق في العقل العربي إلى العودة إلى مرجعياتنا الفكرية المغاربية الأندلسية المتسمة بالعقلانية كابن حزم والشاطبي وابن رشد وابن خلدون وغيرهم، كي يتمكن المسلم من دخول الحداثة، ويسمح لنا أيضا بمواجهة الأفكار الدخيلة المنتجة للإرهاب والمهددة لأمننا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!