الرأي

“Rifka”: نحن قادمون!

ح.م

في لمح البصر، صُرفت الأنظار والأفكار عن فواجع الأمطار والأقدار، وتجاوزت الأخبار سقطات المسؤولين وزوجاتهم وجدل المساواة في الميراث ومصير العهدة الخامسة وأهداف محرز في مانشستر سيتي وسواها، لتتوقف عجلة الأحداث عند النبإ العظيم “عيد ميلاد ريفكا”، الفتى الذي شغل الورى وملأ الدّنى في جزائر الفارغات فرغًا، وقد جمع الآلاف من مُعجبيه عبر “السناب شات”، ليشاركوه حفلة عيد ميلاده الحادي والعشرين بساحة رياض الفتح.

الحدث جلل عند العارفين بعمق التحولات الاجتماعية والثقافية والتكنولوجية الرهيبة في زمن القرية المفتوحة، وهو ينمّ عن نشوء جيل جديد، وليس مجرد صورة عابرة لحشد من المُبتهجين بعيد ميلاد لشابّ مراهق صنع شهرته عبر وسائط الإعلام الجديدة، ما يقتضي الوقوف عند دلالاتها الباطنة ورسائلها المشفَّرة لكافة الأطراف، سلطات ونخب ومؤسسات سياسية ومدنيّة، لفهم مغزاها والتعامل معها بطريقة صحيحة، لتفادي آثارها السلبية على الأمن الاجتماعي والاستثمار في جوانبها الإيجابية، لرسم معالم التغيير السلس بهدف تأمين المستقبل.

نرفض التعاطي بسطحية ولامبالاة مع حفلة “ريفكا”، بمبرّر المراهقة والغزو الثقافي والانبهار بالسلوك الغربي لدى شباب اليوم، مع وجاهتها كعوامل رئيسة، لأن ذلك لا يفسّر وحده حقيقة ما يجري من تغيرات عميقة في الأنساق الذهنية للجيل الرقمي ببلادنا، كنموذج لدول العالم المتخلف، بل وجب البحث في الدوافع المحفزة محليّا، التي تجعل من شبابنا بيئات حاضنة لكل الأفكار الوافدة، مهما كانت غريبة عن أصالة المجتمع وانتمائه الحضاري، حتى صار جزءٌ معتبر منه يعيش حالة من الصدام والفطام مع الموروث الثقافي والتاريخي!

الإقبال الحاشد والقياسي لجمهور “ريفكا” في قلب العاصمة، فقط لأجل الاحتفاء بعيد ميلاده، هو وجهٌ آخر للقطيعة مع المؤسسات التقليدية، رسمية كانت أو مجتمعية، لأنّ ما جمعه الشاب/ الطفل بدعوةٍ عفويّة بسيطة، من خلال غرف الدردشة، يستحيل أن تعبّئه كل الأحزاب والوزارات والهيئات، حتى بدفع المال واستعمال ممتلكات الدولة.

هذا الأمر يعكس في تقديرنا حالة الإحباط الشديدة من الواقع المعيش، وفقدان الثقة والأمل في رموزه وشخوصه وتطلعاته وخطاباته، ما جعل الآلاف من شبابنا التائه في غمرة المجهول، يستعيض عن ذلك بنجم واهن، صنع منه زعيمًا، يتعلق به ويصفق ويرقص ابتهاجا بعيد ميلاده، بعدما وجد في خطابه وبضاعته تنفيسًا عن المكبوت وتعبيرًا عن الذات المهتزَّة وتناسقا أحيانًا مع وضع الفراغ وفقدان الأحلام الكبيرة، لأنَّ الزعامات التي تحتلّ المشهد العامّ، عنوة عنهم، بكل مواقعها وأطيافها لا تحمل همومهم ولا تمثل تفكيرهم ولا تجسِّد طموحاتهم المختلفة.

إذن هؤلاء الشباب الحيارى، ليسوا منحرفين من عبدة الشيطان، بل هم جيلٌ جديد مختلف، فتح أعينه وآذانه على عالم آخر تحكمه التكنولوجيا العابرة للقارات والثقافات والأديان، هم ثروة هائلة مفعمة بالحيوية والتطلع إلى المستقبل، لكنها فاقدة للقيادة والقدوة والبوصلة، تترّقب من يأخذ بيدها إلى شاطئ الأحلام السعيدة، وإلى ذلك الحين، هي تتعلق بكل قشّة نجاة معنوية!

“ريفكا” أبرق برسالة عاجلة لمن فاته الخبر اليقين، مفادها أنّ العالم قد تغيّر جذريّا، وعلى المسؤولين والسياسيين ورواد المجتمع، إن أرادوا أن يتمدّدوا، فعليهم أن يتجدّدوا، وإلا فليتبدّدوا دون رجعة، لأنّ سنن الاجتماع السياسي لا تُحابي المتخلفين عن مواكبة عصرهم الجارف، فهل تراهم مؤهلين لاستيعابها أم إنهم في كهفهم يغطون؟!

مقالات ذات صلة