-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الحرية الدينية والتهجّم على الدين

محمد بوالروايح
  • 1782
  • 0
الحرية الدينية والتهجّم على الدين

لقد انتعشت “موضة” التهجم على الدين بين العلمانيين وتبعهم في ذلك بعض المستغربين الذين لم يجدوا وسيلة لكسب ودّ العلمانيين أفضل من التهجم على الدين ووصف أتباعه بأبشع الأوصاف ونعتهم بالتخلف والتطرف.

يطلع علينا بين الفينة والأخرى عيٌّ جاهلٌ أعيته الحكمة فيطلق للسانه العنان لسبِّ الأديان وإقناع الناس بأن الأديان تحدُّ من حرية الإنسان وبأنه لا خلاص للإنسان من سجن الأديان إلا بالتحرر منها والعودة إلى النظام الطبيعي الذي يعيش فيه الإنسان بعيدا عن “افعل ولا تفعل” و”هذا حلالٌ وهذا حرام”.

إن التهجم على الدين، أيّ دين، جناية قديمة ارتكبها قوم عاد وثمود وغيرهما ثم استمرت واتسعت دائرتها وتنوعت أساليبها في العصر الحاضر، فالانفجار الإعلامي الذي شهده العالم في عصر العولمة أتاح لخصوم الدين استمالة أكبر عدد من التائهين الباحثين عن التنفيس عن مكبوتاتهم التي يدّعون بأن الدين قد حال بينهم وبينها بما يسنّه من قوانين طوبائية لا تناسب إنسان الحضارة.

لقد نظرتُ في سيرة بعض المتهجمين على الدين فوجدت أكثرهم ممن يعانون مشكلات عصبية أو عقد نفسية، ووجدوا في هذه الطريقة وسيلة لاعتزال المجتمع، وليس في هذا الكلام مبالغة بل هو حقيقة تسعفنا بها كثيرٌ من تقارير مؤسسات الرعاية الاجتماعية والصحية.

تتحدث إلى بعض المتهجمين على الدين فيحاول عبثا أن يقنعك بأن هذا ليس تهجما وإنما هو “شكلٌ من أشكال حرية التعبير”. إن حرية الفكر وحرية العقيدة أمر مبتوتٌ فيه “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، ولكن ليس من حرية الفكر ولا من حرية العقيدة التهجمُ على الدين وانتقاصُه ووصفٌ رموزه بأنها “أصنامٌ جديدة” وبأن وظيفتها المحورية هي “كسر الطموح الإنساني وتكبيل العقل وإكراهه على الإيمان بالخرافة”، وليس من حرية الفكر وحرية العقيدة أن يطلع علينا أشباه المفكرين يسبُّون الدين ويلعنون المتدينين ثم يقولون إن “اختلاف الرأي رحمة”، وليس من حرية العقيدة أن يتهجم بعض الجاهلين على سيرة الأنبياء ثم يسمون هذا “حرية دينية”.

ساست الكنيسة المسيحية في القرون الوسطى المسيحيين بعقيدة “اعتقد ولا تنتقد”، وقد دفع هذا الانغلاقُ العقدي بعض المفكرين إلى التمرد على الكنيسة، وحدثت ضجة كبيرة في الغرب في ذلك الوقت بين الرهبان وبين المفكرين، ودفعت الكنيسة المسيحية ثمنا باهظا بسبب هذا الانغلاق العقدي، وكان هذا خطأ كنسيا لا يُغتفر، ثم تطور السلوك الانفعالي من مواقف الكنيسة مع مرور الزمن وتحوَّل إلى مذهب قائم بذاته له أتباع في القارات الخمس مهمتهم التحريض ضد الأديان واحتضان من ضاقوا بالدين وبالمتدينين.

يدعي بعض المتهجمين على الدين بأن الإله أمرٌ اختياري وثانوي في حياة الإنسان، بل من الأفضل للإنسان -حسبهم- أن يعيش من دون إلهٍ وأن يتحرر من سلطة المقدس الديني الذي تعيقه عن أداء دوره كعنصر مركزي في حركة الكون وحركة التاريخ. لقد قرأنا عن هذه الخزعبلات كثيرا وتتبَّعنا سيرة أصحابها فوجدناهم أكثر تفلّتا وأكثر ضياعا بعد أن طلقوا الدين وانسلخوا من القيم الدينية، فالمشكلة في أنفسهم قبل أديانهم وفي عقولهم قبل نصوصهم.

إن التهجم على الدين جريمة كبرى، وعلى المؤسسات الدينية جميعا أن تتّحد من أجل إلزام الدول بتعديل دساتيرها بالقدر الذي يغلّظ عقوبة المستهزئين بالأديان الذين وجدوا في تساهل بعض الدساتير حيال جريمة ازدراء الأديان فرفعوا من سقف التهجم على الدين. إن عقوبة ازدراء الدين ينبغي أن تتصدر العقوبات الجنائية؛ فليس هناك جريمة أكبر من التهجم على الدين الذي يعني التهجم على الذات الإلهية.

أشفقُ كثيرا على بعض المتخصصين في الأديان الذين جاروا بعضَ السفهاء في مواقفهم وآرائهم التي لا تمثل شيئا في ميزان الفكر الديني فوقعوا صيدا سهلا في شباك هؤلاء الذين سبرنا الثقافة الدينية لبعضهم فوجدناهم على ختم الله لا يملكون القدرة على قراءة النصوص الدينية ناهيك عن استقرائها وعلى شكلها ناهيك عن تأويلها.

إنني أشعر بحزن عميق وأنا أسمع أو أقرأ عن طالب في مقارنة الأديان قد جنح بعيدا عن الفكر الإسلامي لأنه وجد ضالته في فكر ديني آخر. إلى هذا الحد يستخفّ بعض المراهقين فكريا بعقول طلبتنا ويحبِّبون إليهم ما يكرهونه هم في قرارة أنفسهم. لو أن طلبتنا تمعّنوا في النصوص لكانوا هم الصياد وغيرهم الصيد، ولكنهم لم يفعلوا فجرفهم التيار كما جرف غيرهم.

إن التهجم على الدين جريمة كبرى، وعلى المؤسسات الدينية جميعا أن تتّحد من أجل إلزام الدول بتعديل دساتيرها بالقدر الذي يغلّظ عقوبة المستهزئين بالأديان الذين وجدوا في تساهل بعض الدساتير حيال جريمة ازدراء الأديان فرفعوا من سقف التهجم على الدين. إن عقوبة ازدراء الدين ينبغي أن تتصدر العقوبات الجنائية؛ فليس هناك جريمة أكبر من التهجم على الدين الذي يعني التهجم على الذات الإلهية.

لبابا الفاتيكان جولاتٌ كثيرة في البلاد المسيحية والإسلامية، يشدِّد فيها في كل مرة على ضرورة تعزيز العلاقات بين الأديان، وأعتقد أن مهمته الأولى قبل ذلك أن يدعو إلى حماية هذه الأديان ضد المتهجمين عليها، وللأزهر والمؤسسات والجامعات الإسلامية مهمة مماثلة وبهذا تجتمع جهود المؤسسات الدينية لمواجهة حمى التهجم على الدين التي ازدادت وتيرتها في السنوات الأخيرة.

إن التهجم على الدين عدمية مطلقة وليس من الحرية الدينية، وليت بعض العقول الكليلة تفقه الفرق بين حرية التدين وحرية التهجم؛ فالأولى مكفولة والثانية مجرَّمة، وليت بعض العقول الكليلة تفقه بأن التهجم هو أسلوب الفاشين والفاشلين وليس من النضج الفكري، وليت بعض العقول الكليلة تفقه بأن الدين هو ميراث الأمم، هو ماضيها وحاضرها ومستقبلها وبأن التهجم عليه هو تهجمٌ على كل هذا الزخم القيمي.

هناك مفكرون غرباء الأطوار والأفكار، يطعنون في النصوص الدينية ويطعنون في الأنبياء ثم يسمون هذا حرية دينية، أيُّ حرية دينية هذه التي لا يقف أصحابُها عند حدود اللباقة وتستبدّ بهم الحماقة فيخلطون ويخبطون ويسفّهون ويقبّحون ثم لا يجدون رادعا يردعهم ولا عالما يفحمهم ويلقمهم حجرا؟

إن التهجم على الدين حرفة احترفها بعض المنبوذين في مجتمعاتهم، ومن واجب الدعاة أن يستغلوا كل ما جادت به تكنولوجيا الإعلام والاتصال من أجل تعرية صفحتهم وكبح جماحهم حماية للأمن الديني والقومي وحماية للأجيال الحالية التي لديها رقة في الدين وضعفٌ في العقيدة فيكونون لقمة سائغة وهدفا سهلا.

يخطئ من يعتقد بأن روما وبرشلونة وهامبورغ وأخواتها التي يقصدها بعض الشباب المسلم للدراسة أو العمل هي التي تغريهم بالانضمام إلى تيار المناهضين للإسلام على سبيل المثال، فأنا شخصيا أجد في روما وأخواتها في الدول الأوروبية حقلا خصبا للدفاع عن الإسلام. إن الأديان تحتاج إلى مفكرين مقتدرين ملمّين بالأحكام وممتلئين بالحكمة وليس إلى مهرِّجين يُكثرون من الثرثرة ولا يمتلكون الفكرة ولا يفقهون في شؤون الدين والدنيا شيئا.

حضرتُ قبل سنوات ملتقى دوليا حول الجريمة المنظمة بجامعة الأغواط، وكانت مداخلتي عبارة عن مقاربة شرعية وقانونية لتأسيس ميثاق دولي لمكافحة الجريمة المنظمة، وأعتقدُ اليوم أنه على المؤسسات الدينية في العالم أجمع أن تفكر في وضع ميثاق عالمي لمواجهة التهجم على الأديان.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!