-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
أقواس

شخصيات في حياتي الأدبية

أمين الزاوي
  • 8184
  • 8
شخصيات في حياتي الأدبية

عمر ديب قد لا يعني لكم هذا الاسم على المستوى الأدبي أو الثقافي كثيرا أوقليلا، ولكني أقول بأن لهذا الرجل المثقف ظلا كبيرا على تجربتي الأدبية. كان عمر ديب الحارس العام الداخلي، كان شخصية صارمة…

يثير الخوف فينا أينما مر أو وجد، ولا يفاصل فيما يتصل باحترام قوانين النظام الداخلي في الثانوية، “ثانوية بوليفالون” بتلمسان، ولا يتنازل قيد أنملة عن تطبيق الإجراءات الصارمة والردعية ضد كل تلميذ يخل بالنظام، وعمر ديب من عائلة الكاتب الكبير محمد ديب وأخو الكاتب محمد سهيل ديب، لم يكن هو الآخر بعيدا عن الأدب والكتاب، كان قارئا كبيرا ومثقفا ومهتما بالسياسة، وهو الذي سيصبح، وبعد سنوات، معدا ومقدما لواحد من أهم البرامج الثقافية، في إذاعة تلمسان الجهوية، التي تهتم بالفلكلور المحلي والثقافة الشفهية الجزائرية بشكل عام، وقد أصبح لهذا البرنامج المتميز مستمعون مداومون، ولم يكذب حدسي عن قوة شخصيته الثقافية إذ أنه أصبح يكتب أيضا في واحدة من أهم الجرائد الوطنية مقالات بالفرنسية عن الفلكلور والثقافة الشعبية، وقد سجل عشرات الحكايات الشعبية التي نسيتها العامة أمام طغيان ثقافة الصورة. وقد سعدت بأن نشرت له، عندما كنت على رأس المكتبة الوطنية، كتابا بعنوان: “حكايات شعبية متبوعة بملقور ملك الظلمات”  ” Contes suivis de Melgor, Le seigneur des Obscurités” أعتبره إلى جانب كتاب “مائة ليلة وليلة.. وحكايات أخرى” للباهي البوني” الذي حققه ودققه الأديب والباحث الدكتور شريبط أحمد شريبط “من عيون الكتب التي تناولت الثقافة الشعبية والتي تفتخر بهما المكتبة الجزائرية، وأنا أقرأ كتاب عمر ديب هذا ذكرني في طريقة عمله بما قامت به الكاتبة طاوس عمروش فيما يتصل بالثقافة الشفهية الأمازيغية في منطقة بلاد القبائل، من جمع وتصنيف وحفظ.

من عمر ديب الحارس العام في ثانوية “بوليفالون” بتلمسان، ثم الصحفي والكاتب بالفرنسية الذي بقي في الظل شأنه شأن أخيه سهيل ديب، إذ أن كل رأسمال شهرة اسم آل “ديب” صادره الكاتب الكبير وعميد الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسة محمد ديب، من شخصية عمر ديب هذا، سأطرح على نفسي، وبشكل عفوي وطفولي، الأسئلة السياسية الأولى المرتبطة أساسا بالمسكوت عنه في تاريخ الجزائر، وأخرى متصلة بحساسية الأشخاص وحساباتهم الفردية التي تطمس الحقائق التاريخية وتحول ضوء النهار إلى ظلمة، ومن عمر ديب سأدخل سؤال الديمقراطية وحرية التعبير، وسأتعلم بشكل غير مباشر وغير واع التساؤل حول مفهوم السلطة الشمولية في العالم الثالث، ومنه أيضا سأعرف بأن الكبار سنا يخافون أيضا، فإذا كان هذا ال”عمر” يرعبنا نحن التلاميذ، رعبا لا مثيل له، فإن هناك من يثير فيه الرعب هوأيضا، لم أكن لساعة واحدة أعتقد أن عمر ديب يخاف، لم أكن ولولساعة واحدة أفكر أن هناك شخصا أكبر من عمر ديب، وذات يوم وبالصدفة كنت أجلس على عتبة باب مكتبة مجاور لمكتب حارسنا العام، إذ سمعته يتحدث وبإيقاع شبه خافت ومرتجف، لم يكن صوت عمر ديب في تلك اللحظة يشبه صوت عمر ديب الذي أعرفه ملعلعا طاغيا فوق كل صوت، دائما شاتما غاضبا ومهددا، سمعته يتحدث إلى رقيب الثانوية le censeur السيد ڤوار Gaouar الذي يعلوه درجة في المسؤولية عن “شخصية غريبة ومثيرة” ارتبط وجودها عندنا نحن تلامذة النظام الداخلي بالليل، إنه “الحارس الليلي” للمراقد (الساهد) le veilleur ، شيخ نحيف يلبس جلابته صيفا وشتاء، غامض أومتصوف؟ لست أدري، لكن شخصيته الصامتة كانت تثير لدي كثيرا من الأسئلة. سمعت السيد عمر ديب يحدث الناظر السيد قوار بفرنسية مخلوطة بلهجة تلمسانية وهوما يؤكد بأن في الأمر سرا، بأم أذني سمعت الحارس العام يقول: لقد اعتقلوه البارحة، إنه من حزب مصالي الحاج  Messaliste ، لم أفهم جيدا ما قيل، ولكني أدركت بأن في الأمر ممنوعا وهذا الممنوع مرتبط أصلا بما يسمى بمصالي الحاج. من هو مصالي الحاج؟ هكذا بدأت سؤال الممنوع في تاريخنا الوطني! ومن يومها لوي يظهر (الساهد) أي الحارس الليلي في المراقد، اختفى بجلابيته وحزنت على ذلك حزنا كبيرا. ولكني اكتشفت نوعا آخر من الخوف، ذاك الذي يعيشه الكبار الذين لطالما أخافونا بصرامتهم التي تسكن لغة الوعيد على ألسنتهم.

أذكر، كان السيد عمر ديب يحب كرة القدم، مولعا بها، ويلعبها يوميا مع الحراس وكبار تلاميذ القسم النهائي بحرارة وحماس شديدين، كنت في السنة الثانية متوسط، مرات كنت أقف على حافة الملعب الذي هوساحة الثانوية، أشاهد المقابلة بدون ذوق ولا شهية، لم تكن تثيرني كرة القدم منذ الصغر وحتى الآن، فأنا لا أحب الألعاب التي فيها مهزوم، أريد الألعاب التي يخرج منها الجميع منتصرا. أغلب وقتي كنت أصرفه في المطالعة، أذكر في تلك الفترة كنت مأخوذا بسلسلة الروايات التاريخية لجورجي زيدان. والذي بعد سنوات اكتشف وأنا أقرأ روايات أمين معلوف الحائز على جائزة الغونكور الأدبية بأن هذا الأخير لم يقم سوى بإعادة كتابة روايات جورجي زيدان بأسلوب جديد، وبلغة فرنسية وبروح مشرقية، مرات حين كنت أقف لبعض الدقائق لأشاهد مقابلة كرة القدم، لم يكن يشدني في هذه المنافسة تسجيل الأهداف، كل ما كنت أنتظره هو متى يمسك أحد اللاعبين الذي كان يسمى “بن بلة” بالكرة، لا لشيء إنما كي أسمع رفاقه من الفريق ينادونه “بن بلة.. بن بلة .. بن بلة” طالبين تمرير الكرة. ويبدو أن التلميذ بن بلة كان لاعبا ممتازا، كنت أشعر أن الجميع كان ينزعج بل ويخاف من ذكر هذا الاسم جهرا وعلانية. وحسب ما روج في الثانوية أن بعض رجال الأمن جاءوا الثانوية، وطلبوا من الحارس العام عمر ديب أن يوقف مثل هذه المباراة التي يلعب فيها هذا “بن بلة”، أو أن يمنع التلميذ “بن بلة” من المشاركة في المنافسات، أو على اللاعبين أن يمنحوه اسما رياضيا، أن يغيروا اسمه، ينادونه باسم آخر، مثلا “بيلي”! وأذكر أنني، ومن باب الفضول وقفت، اياما بعد ذلك، للتفرج على المباريات فلاحظت أن التلميذ ابن بلة قد اختفى، أو على الأقل اختفى الاسم من صراخ المتحمسين المناصرين لهذا الفريق أو ذاك.

حينما عرفت بأن عمر ديب هذا، هو ابن عم هذا الكاتب الكبير محمد ديب صاحب “الدار الكبيرة” و”النول” و”الحريق”، فقد عزمت على قراءة رواياته جميعها، أوبالأصح ما كان متوفرا في مكتبة البلدية، لم أكن أتصور أن كاتبا له الكتب يمكن أن يكون مثل العامة له ابن عم أوابن خالة وله أسرة، الكاتب في رأسي من ص ياغة أخرى، من طينة غير طينة البشر !! عمر ديب هوالذي أسقط صورة الكاتب من سمائها ومثاليتها إلى واقع معيوش، وهو الذي جعلني أتابع بإعجاب تجربة محمد ديب التي أوصلتني لاحقا إلى ترجمت روايته “هابيل” التي أعتبرها واحدة من أهم ما كتب محمد ديب هلى الإطلاق. وحين التقيت بمحمد ديب في ماي 1995 بباريس، وكنت على اتصال به عن بعد وأنا أشتغل على ترجمة “هابيل”، وجدت فيه كثيرا من عمر ديب، في الخجل والتربية الأندلسية وحب الثقافة الشعبية والجزائر، لكني أعترف أن عمرديب كان أعمق في نفسي على المستوى الإنساني بكثير.

 يتبع

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
8
  • Algérien

    pour le commentaire n° 7
    Omar DIB et nom AMAR DAIB
    il est encore vivant Allah Ytoual fi Amrou.
    الأستاذ عمر ديب مازال جي يرزق أطال الله في عمره آمين.

  • mohamed ali

    c vraiment fort en est ou par apport a ces homes la come AMAR DAIB ellah yarahmou......

  • wassim

    شكر على ما تكتب عن الروائيين
    أرجو من الروائي والمبدع المحترم الزاوي أمين أن يكتب على الناقد المرحوم الدكتور امحمد مصايف رحمه الله

  • بلال محمد اليزيد

    سيدي أمين الزاوي وكاتبنا المرموق ، والله كلما قرأت لك إلا وأزددت إعجابا بكل ماتكتب . أنا قارئ فقط لا أفقه في الرواية شيئا لكن أسوبك الممتاز جعلني أقرا كل ما تعلق بإسم السيد أمين الزاوي .أرجوك أن لا تتوقف عن الكتابة في جريدتنا المحبوبة وفي كل الوسائل الإعلامية المتاحة إن إستطعت .الله يحفظك من كل شر والسلام عليكم .

  • كريم

    بداية نكشر الأستاذ الفاضل أمين الزاوي - الذي إلتقيه مرة صدفة في العاصمة في ملتقى البشير الابراهيمي فأعجبتني أناقته و لم تعجبني صرامته المفرطة - على هذه النقلة في الكتابة الصحافية , و لكني أريد منه أن ينور الفكر الثقافي ببعض المقالات النقدية التأصيلية التي تذلل مفاهيم المدارس النقدية الحديثة حتى تعم الفائدة و يزول اللبس و يعرف الخيط الأبيض من الخيط الأسود .
    أشكرك و أتمنى لك المزيد من العلم و المعرفة الممزوجة بخلق العلماء...

  • سعيدي أمين

    أرجو من الروائي والمبدع المحترم الزاوي أمين أن يعود بنا لحادثة كنت أحد شهودها بدار الثقافة بمدينة سعيدة شهر ماي سنة عندما تعرضت لمضايقات وتهديد خطير...

  • abdesafi

    ''ليت الشباب يعود يوما ...''
    ها هو زميلنا في الدراسة الدكتور الزاوي يعود بنا الي ذكريات الشباب،وهل هناك أجمل من ذكريات الطفولة...
    ذكريات بأفراحها ومآسيها لازالت عالقة بنا،نحنّ اليها.والأجمل في هذا عندما تقف مخيلتك على زمرة من أساتذة امثال عمرالديب، طارق؛زيتون،احمد البغ...،ماركو،برنقارالفراد.وزملاء امثال قبيبش،عكاشة،زريوح،عبدالرحيم الدنك
    ،بلماحي...فكل واحد بطبعه الخاص يشكل نموذجا...وانا واتق من اخي محمد الأمين سيعرج على هذه الأسماaوالبعض منها... فرحمة الله على من مات،وتحياتي لكل من قاسمنا الذكريات.
    بن بشيرعبدالصافي.

  • عابد

    السلام عليكم لقد استفدت منك كثيرا سيدي ومن تجربتك فواصل فأنت تحبب المطالعة لشبابنا.