من ولاية المثقف إلى ولاية الفقيه
لماذا يصوم المثقف الجزائري اليوم عن الأحزاب؟ آخر الأحزاب التي كانت تجمع المثقفين والمبدعين الفاعلين في المشهد الإبداعي هي الأحزاب الشيوعية، هذه ظاهرة ثقافية عالمية لم يشذ عنها تاريخ الثقافة في الجزائر، لا أحد ينكر، المتفق كالمختلف، بأن أهم الأسماء الإبداعية الجزائرية، على مدى القرن العشرين، كانت تدور في فلك الحزب الشيوعي ثم وريثه حزب الطليعة لاحقا (الباكس)، وليعلم القارئ الكريم، ومنذ البداية، بأنني لم أدخل هذا الحزب ولا غير هذا الحزب حتى ساعة كتابة هذه الحروف.
حين نستعيد أهم الأسماء الأدبية أو السينمائية أو المسرحية أو التشكيلية أو الإعلامية والتي كان لها الدور المؤثر في مسار تاريخ الثقافة الجزائرية سنجدها، إن لم أقل كلها فجلها، تنتمي إلى هذا التنظيم السياسي.
في الفن التشكيلي لا أريد أن أعدد الأسماء، ولكني أسوق اسم الفنان محمد خدة الذي شكل مدرسة، وتحوّل إلى مرجعية تشكيلية عالمية، ومع أن أعماله كانت تجريدية بعيدة كل البعد عن فن الدعاية أو البروباغاندا، إلا أنها كانت من نتاج فنان ملتزم بخط سياسي وذي انتماء حزبي واضح.
في المسرح، لا يمكننا القفز على تجربة المسرحي عبد القادر علولة، حين الحديث عن تاريخ المسرح الجزائري خلال القرن الماضي، وما مثلته تجربة هذا المسرحي العصامي من تأثير على أجيال متلاحقة من أهل الركح، ولا يزال ظل عبد القادر علولة بارزا في المشهد المسرحي حتى الآن، بل إني أذهب إلى أبعد من ذلك لأقول: إن شخصية علولة من عمق وتأثيرها البالغ والبليغ في الساحة الفنية، فقد تحوّلت لاحقا إلى ما يشبه العقبة في وجه التجريب والمغامرة في المسرح، لقد أصبح، وعلى مدى نصف قرن، مع استثناءات قليلة، المسرح الجزائري هو انتاج وإعادة إنتاج علولة ونسخ شخصيته وشخوصه بتحويرات أو تشويهات مختلفة، وبدت المسرحيات التي تقدم هي مسرحية واحدة تعيد بشكل من الأشكال مسرح علولة وتنوعه، حين قدم “حمام ربي” أو “الخبزة” أصبح المسرح كله “حماما” أو “خبزة” وحين كتب “الأجواد” أو”اللثام” وأعطى شخصية الراوي الشعبي أو فن الحلقة بعدا جماليا واجتماعيا وسياسيا على الخشبة أصبح المسرح الجزائري، بين عشية وضحاها، عبارة عن “حلْقاتْ” وأضحى الممثلون لا يصعدون الخشبة إلا لاستعادة الراوي بشكل ساذج، لم يؤثر علولة على المخرجين المسرحيين فقط إنما كان تأثيره، بوصفه ممثلا، على غالبية الممثلين وحتى الممثلات لأجيال متلاحقة، كان علولة منتميا هو الآخر إلى الحزب الشيوعي الجزائري (الباكس: حزب الطليعة الاشتراكية) ولم يكن يخفي ذلك.
وفي الأدب الروائي ثلاثة أسماء أساسية في تاريخ الرواية الجزائرية كانت منتمية ومناضلة في الحزب الشيوعي، وهم كاتب ياسين والطاهر وطار ورشيد بوجدرة، وأعتقد أن هذه الأسماء على اختلاف حساسياتها الجمالية وأيضا اختلافها حتى في اللغة التي تكتب بها، عربية وفرنسية، إلا أنها أثرت بشكل كبير في مسار الرواية الجزائرية وفي جيلين كاملين من الكتاب، ولا تزال رواية “نجمة” كاتب ياسين أو “اللاز” للطاهر وطار أو”التطليق” لرشيد بوجدرة النصوص الأكثر حضورا في الحياة الأدبية في الجزائر.
وإذا كان هذا هو حال الفن التشكيلي والمسرح والرواية، فبإمكاننا توسيع هذه المقاربة إلى السينما والصحافة المؤثرة، حيث كان الممارسون وخاصة الأسماء الفاعلة والتي تملك رمزية في التأثير والوجود هي أسماء مناضلة ومنتمية إلى الحزب الشيوعي.
لقد تواصل هذا الوضع الثقافي والإبداعي حتى التسعينات وهو تاريخ دخول الجزائر مرحلة تاريخية جديدة، تميزت بالتعددية السياسية، وهو ما سيجعل تراجعا كبيرا في علاقة المبدع بالحزب، ولعل انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط الحلم الوهم جعل الجيل الجديد من المبدعين والمثقفين يراجع كثيرا مفهوم ما كان يسمى بالمسلمات الإبداعية والقناعات السياسية، وشرع في مغامرة البحث عن مرجعيات جديدة في السياسة وفي الإبداع، ومع هذا المنعطف السياسي سنشهد ولادة ظاهرة استقطاب التيار الديني السياسي لبعض الأصوات الإبداعية كالدكتور مصطفى الغماري وأبو جرة سلطاني والدكتور حسن خليفة في الأدب وقدور إبراهيم زكريا في السينما وبوكرش زهير في الفن التشكيلي، إلا أن هذه الأسماء لم تراكم نصوصا كثيرة وبالتالي لم تصل إلى تلك الدرجة من قوة التأثير على المثقفين من المبدعين، كما كان الحال مع تجربة المثقفين المنتمين إلى الحزب الشيوعي.
ولكن الواقع السياسي والثقافي الجديد سيفرز ظاهرة ثقافية جديدة تتمثل في عودة ظهور شخصية “الإمام” “الفقيه” و”الداعية” كصوت سياسي فاعل ومحرك، ولكن إذا كان “الشيخ عبد اللطيف سلطاني” رحمه الله قد أثر بالإمامة، ولكن أثر أيضا بالكتابة، كما أثر قبله مالك بن نبي والشيخ الإبراهيمي، إلا أن من أمثال هؤلاء قليلون، فقد اكتفى الآخرون، وهم كثر، بالخطب في المساجد والحلقات وأعادوا للمثقف الشفوي سلطته وأعطوا البلاغة المنبرية مكانة واضحة، وربما لأنهم اعتمدوا الشفوي في علاقتهم مع الشارع ولم ينتقلوا إلى الكتابة، فقد روّجوا لمجموعة من أسماء الدعاة المشارقة الذين لهم كتب أيديولوجية-دينية، وحوّلوهم إلى رموز لدى الجيل الجديد، جيل الثمانينات، وبالتالي كان تأثر الوسط الثقافي الديني بالصوت المشرقي أكثر من الصوت الجزائري، ومن هنا شعرنا بتراجع الثقافة الدينية الجزائرية التي عرفها آباءنا وأجدادنا لصالح ثقافة مشرقية دينية بألوان إيديولوجية غريبة عن مجتمعنا.
(للمقال بقية)