يُخربون بيوتهم بأيديهم
أصعب ما في الحياة أن تكتب تأبينية على روحك، وأصعب ما في الموت أن لا تجد من يكتب تعزية على روحك، وفي الحالتين هي طقوس انتحار رهيب يمارسه بعض من الشعب وبعض من الدولة في حق بلد شغل الورى وملأ الدنى بشعر رتلناه كالصلاة تسابيحه من حنايا جزائر، ما فتئت أن مسحت دموع الأسى حتى أغرقناها مرة أخرى في فوضى لا أحد تمكن من أن يُعطي لها عنوانا، فما بالك أن يجد لها تفسيرا وحلولا.
-
عملية الانتحار التي مارسها المحتجون والمتفرجون من الشعب منذ أيام بدأت في الحقيقة منذ سنوات، عندما نصبت السلطة مشانق معنوية جماعية في كل مكان، فأعدمت آمال الشباب، حتى عندما تهاطل غيث النفط بأسعاره التي كانت أشبه بالأحلام اهتمت الحكومات المتعاقبة بصرف ملايير الدولارات على الإنجازات المادية الكبرى ونست الاستثمار في الإنسان الجزائري الذي بقي آخر اهتماماتها، فكانت الحاويات تصل الموانئ بحثا عن خزانة في سفينة تسافر به إلى أي مكان في العالم ليعيش متخفيا كالخفافيش في بلاد السند والهند على أن يعيش صديقا لحائط هو أقرب إليه من أي موظف في البلدية التي ينتمي إليها.
-
كلنا نعلم أن الذين ثاروا نهاية الأسبوع الماضي لم يخرجوا للشارع طلبا للزيت وللسكر، وكلنا نعلم أن الذين استفادوا من ثورة المحتجين فعاثوا في مرافق الشعب خرابا ما ثاروا من أجل بطونهم، لأنه لم يحدث في تاريخنا وأن ثار الجزائري من أجل أن يأكل. ولكن أن نباشر شق الطرقات السريعة دون أن نفتح له طريق المستقبل، وأن ننجز له مترو الأنفاق والعربات الهوائية دون أن نُخرجه من نفق اليأس ونمنحه هواء الحرية، وأن نخفّض له سعر السكر دون أن نخفض ارتفاعه في دمه، هو الذي جعله يشعر بالاحتقار، فيفقد حتى بوصلة الاحتجاج.. لأجل ذلك حتى لو منحناه السكر والزيت والحليب مجانا ما نزعنا فتيل النار التي أحرقته فأحرق بها مؤسسات الدولة والشعب معا، لأن الجزائريين عندما انتفضوا عام 1988 لم يكن سعر السكر يزيد عن خمسة دنانير ولكن كتم أنفاسه وحده من حرّكه على مدار قرون ووحده من سيحركه مستقبلا، ومن العار والظلم أن نتهمه بالثائر من أجل بطنه.
-
ولو سألت حكومتنا مئات المعتقلين عن سعر السكر والزيت في الأسواق لعرفت أنهم جميعا لا يعلمون، وأكثر من ذلك لم يسبق لهم أن اقتنوا هاته السلع، ومؤسف أن تعالج الحكومة “ورما” معنويا مزمنا بمسكّنات حمى عادية هي الأدرى أنها في غير مكانها.
-
ماذا نقول الآن بعد أن هدأت الأوضاع لأبنائنا إذا سألونا عن أحداث جانفي 2011؟.. هل نقول لهم إن الشعب جاع والدولة قد ضخت ثلاث مئة مليار دولار من أجل نهضة ما زالت أرقاما بكثير من “الأصفار”.. هل نقول لهم إن الشعب حرق المدارس من أجل العلم، وحرق مراكز البريد من أجل التكنولوجيا، وحرق البلديات من أجل الديموقراطية؟.. وهل نقول لهم إن المسؤولين بمختلف مناصبهم رفضوا الاستقالة من أجل أن يمنحوا الشعب حلولا لا أحد لمسها؟
-
ليس أصعب ما في الحياة أن نكتب فقط تأبينية على أرواحنا، ولكن أن نئد أحلام أبنائنا فنعجز بعد أن هدأ الوضع أن نجيبهم على كل هذه الأسئلة، ويعجزون هم الموؤودين عن الإجابة.. بأي ذنب قُتلت أحلامهم؟