العلاقات بين الجزائر وعُمان…جدور تاريخية وآفاق مستقبلية

الكثير من المهتمين بتاريخ العلاقات الجزائرية مع دول الخليج العربي يجهل تاريخ بداية العلاقات بين الجزائر وسلطنة عمان، غير أن المتتبع لتاريخ الدولة الرستمية في الجزائر سيتجلى له أولى مظاهر التواصل بين الجزائر (المغرب الأوسط آنذاك) وسلطنة عمان، وذلك عن طريق تبنّي الدولة الرستمية للمذهب الإباضي، وهذا الأخير هو المذهب السائد في سلطنة عمان حاليا..
حيث كان أول من قدم إلى منطقة المغرب الإسلامي داعيا وناشرا للمذهب الإباضي هو سلمة بن سعد الحضرمي خلال القرن الثاني للهجرة حسب الكتب الإباضية، وقد كان سلمة سببا في إرسال الكثير من طلبة المغرب الإسلامي إلى البصرة بالعراق لتعلم فقه المذهب الإباضي، ولما أعلن عن تأسيس الدولة الرستمية على يد الامام عبد الله بن رستم عام 776م، كانت عمان من أوائل الدول التي اعترفت بالدولة الرستمية وتقديم الدعم المعنوي والمادي لها، إلى درجة الاعتراف بعبد الرحمان بن رستم إماما لكل الإباضية في المشرق والمغرب الإسلاميين على السواء، وهذا الاعتراف هو الذي جسد ومتّن روابط التواصل الديني والسياسي بين الجزائر(المغرب الأوسط) وعمان، هذا بالإضافة إلى أن موسم الحج كان فرصة سانحة يغتنمها إباضية المغرب الأوسط لزيارة عمان وهم في طريقهم لأداء مناسك الحج، إذ يقول في ذك المؤرخ الجزائري إبرهيم بحاز: “لعل الحج يعتبر أهم وسيلة ربطت المغرب بالمشرق ولا يزال، وقد تجاوب المغاربة مع هذا الركن من الدِّين وتحمّسوا له، فكانت أمنيّة الواحد منهم أن حسن إسلامهم أن يقوم بهذه الرحلة الدينية العلمية ولايزال هذا الشعور فيهم قائما”، هذا بالإضافة إلى المراسلات بين حكام وعلماء وفقهاء عمان وأهل الجزائر، تضمنت مسائل في العقيدة والحديث والقرآن والعبادات والمعاملات والعلاقات الاجتماعية، منها على سبيل المثال لا الحصر الرسالة المشهورة التي أرسلها حاكم عمان الإمام ناصر بن مرشد بن مالك (موحد سلطنة عمان) إلى أهل الجزائر عندما وقعت فتنة بين الجزائريين حول تولي الحُكم يدعوهم فيها إلى السلام والتصالح ونبذ الفرقة والخلاف، زيادة على رسائل الشيخ الحاج إبراهيم بن نوح متياز الجزائري مع المشايخ العُمانيين، خاصة مع الشيخ سالم بن محمد بن سالم الرواحي خلال العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، بالإضافة إلى مراسلات الشيخ الحاج محمد بن يوسف طفيّش مع مختلف فئات المجتمع العماني، والتي جمعها ونشرها الدكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام الجزائري في كتاب سماه “كتاب الكرب”، وأعتقد أن جذور وعراقة التواصل الديني بين الجزائر وسلطنة عمان حاليا تتجلّى بشكل كبير في منطقة وادي ميزاب التي ينتشر فيها المذهب الإباضي، بل هناك رابط قوي في العادات والتقاليد بين قصور وادي ميزاب ومدن سلطنة عمان، ولعل محتوى صحيفتي “الأمة” و”وادي ميزاب” تؤكد على هذه الروابط من خلال الزيارات المتبادلة، ومن خلال اهتمام صحافة أبو اليقظان بأخبار سلطنة عمان خلال النصف الأول من القرن العشرين.
وخلال الثورة التحريرية المباركة، لم تتخلف سلطنة عمان عن الدعم والتضامن المعنوي مع قضايا الأمة العربية بما فيها الجزائريين، الذين ساعدتهم في محنتهم معنويا، على الرغم من عدم الاستقرار السياسي في عمان آنذاك بسبب أزمة جبل الأخضر ضد السلطان قابوس بن سعيد (1954-1959م)،غير أن الكثير من الأدباء والشعراء العمانيين عبروا عن تضامنهم مع الثورة التحريرية بطرقهم الخاصة، فنظّم العديد من الشعراء العمانيين قصائد شعرية تعبر عن كفاح وانتصارات جيش التحرير الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، وجعلوها مرجعية لكل من يريد أن يتحرر في العالم، ومنهم الشيخ عبد الله بن علي بن عبد الله الخليلي الذي كتب عدة قصيدة حيّا فيها الجزائريين على استقلالهم وانتصارهم على الاستعمار الفرنسي منها قصيدة بعنوان “إخواننا في الجزائر”، وفي ذات السياق، نظّم الشاعر العماني أبو سرور حميد بن عبدالله الجامعي قصيدة بعنوان “مليون النصر” يشيد ويعبّر فيها عن فرحته باستقلال الجزائريين.
بعد تحرر الجزائر من الاستعمار الفرنسي واسترجاع سيادتها الوطنية تعززت العلاقات السياسية والدبلوماسية بين البلدين من خلال الزيارات المتبادلة بين المسؤولين، بحيث كانت الزيارة الأولى للسلطان قابوس بن سعيد إلى الجزائر في 26 نوفمبر 1973 خلال عهد الرئيس الراحل هواري بومدين من أجل الحضور لمؤتمر قمة عدم الانحياز المنعقد بالجزائر آنذاك، وفي عام 1990 قام الرئيس الشاذلي بن جديد بزيارة تاريخية إلى سلطنة عمان، حيث أسهمت هذه الزيارة في تعزيز الروابط بين البلدين الشقيقين، وبعد هذه الزيارة تمّ في 23 فيفري 1991 تأسيس اللجنة المشتركة بين حكومة البلدين بهدف تطوير العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وفي عهد الرئيس عبد المجيد تبون، قام هو الآخر بزيارة دولة إلى سلطة عمان في الفترة الممتدة من 28 إلى 30 أكتوبر 2024م تلبية لدعوة كريمة من السلطان هيثم بن طارق سلطان، بهدف مواصلة تطوير التعاون الثنائي، وخدمة المصالح المشتركة للبلدين والشعبين الشقيقين، ليكون الرئيس الجزائري الثاني الذي يزور سلطنة عُمان.
أما اليوم، فتشهد العلاقات الجزائرية العُمانية تطوّرا كبيرا تطورا وسريعا في التعاون الاقتصادي والتشاور السياسي والتنسيق الثنائي في العديد المجالات، وخاصة ما تعلق بأمهات القضايا العربية، ومنها بالأخص ما تعلق بالرؤية التوافقية المشتركة تجاه القضية الفلسطينية، والتي لطالما اصطفت كل من الجزائر وسلطنة عمان في خندق المناصرين والداعمين لها، لاسيما في ظل المحنة العصيبة التي يجتازها أهلنا في غزة من جراء العدوان الإسرائيلي المتواصل عليهم، ولقد عبّر السلطان هيثم بن طارق عن ذلك للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في العديد من الرسائل والاتصالات الهاتفية، وأكد على الرغبة المشتركة بين البلدين لتعزيز علاقات التعاون الثنائي أكثر مما هي عليه، وخاصة في مجال الاستثمار والطاقة والبحث العلمي.
وفي مجال تاريخ التعاون الاقتصادي بين البلدين، وبالمقارنة مع حجم الاستثمارات الاقتصادية لدول الخليج العربي في الجزائر، فإن الاستثمارات العمانية في الجزائر كانت ضعيفة جدا في خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بسبب العديد من المعوقات التي عطّلت تطوّر العلاقات الاقتصادية بين الجزائر وسلطنة عمان، أبرزها غياب خط شحن بحري وجوي مباشر، وبُعد المسافة بين البلدين، وعدم وجود مناخ ضامن للمستثمرين العُمانيين في الجزائر، غير أنه السنوات الأخيرة نلاحظ من خلال الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين رغبة قوية في تعزيز الشراكة الاقتصادية والصناعية عن طريق إمضاء عدة اتفاقيات تعاون مشترك، منذ تأسيس اللجنة المشتركة العُمانية الجزائرية عام 1991م، كان من أبرزها توقيع اتفاقية التشجيع والحماية المتبادلة للاستثمارات سنة 2000، وتوقيع اتفاقية تجنّب الازدواج الضريبي ومنع التهرب الضريبي بالنسبة لضريبة الدخل سنة 2000، والتوقيع على اتفاقية تأسيس مجلس رجال الأعمال العماني الجزائري سنة 2006، وبعدها زاد حجم الاستثمارات العمانية بالجزائر بتأسيس الشركة الجزائرية العمانية للأسمدة (أمونياك، واليوريا) بوهران سنة 2013 والتي حوّلت الجزائر من بلد مستورد إلى بلد مصدر لهذه الأسمدة بفضل الشراكة العمانية – الجزائرية، وكذلك تم التوقيع على بروتوكول تفاهم مع الشركة العُمانية أبراج لخدمات الطاقة سنة 2024، والتي هي إحدى الشركات الرئيسية في سلطنة عُمان التي تعمل في قطاع خدمات النفط والغاز.
وفي إطار التبادل التجاري بين البلدين تشير البيانات الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أن حجم التبادل التجاري بين سلطنة عُمان والجزائر قد ارتفع في عام 2024 بنسبة تقارب الـ48 بالمائة، حيث بلغ 62 مليونا و988.2 ألف ريال عُماني، مقارنة بـ41 مليونا و417.2 ألف ريال عُماني عام 2023، حيث وصل إجمالي الصادرات العُمانية إلى الجزائر في عام 2024 نحو 62.3 مليون ريال عماني، مقارنة بعام 2017 الذي بلغ نحو إلى 27.45 مليون دولار، فيما بلغت الواردات العُمانية من الجزائر في عام 2024 نحو 707.9 ألف ريال عماني، وحسب تصريح سفير سلطنة عمان بالجزائر سيف بن ناصر البداعي لوكالة الأنباء العُمانية ذكر بأن عدد الشركات المسجلة التي بها إسهام جزائري حتى نهاية عام 2023م بلغ (423) شركة، مقابل (251) شركة في عام 2022م، أي بنسبة نمو بلغت (68.5%)، ويبقى الأمل في أن تشهد العلاقات الاقتصادية الجزائرية تطوّرا كبيرا في السنوات القادمة ضمن الرؤية العمانية لسنة 2040، وفي ظل تعديل قانون الاستثمارات الجزائري رقم 22/18، والذي يقدّم تسهيلات كبيرة للمستثمرين الأجانب في الجزائر.
وفي المجال الثقافي والعلمي، تجلّى التعاون بين البلدين من خلال التوقيع على العديد من الاتفاقيات منها اتفاقية التعاون الثقافي لعام 1985، وكذا التوقيع على اتفاقية التعاون التعليمي لعام 2001، واتفاقية التعاون العلمي والتقني في عام 2006، والتوقيع أيضا على مذكرة تفاهم في مجال الثقافة عام 2012، وخلال السنوات الأخيرة، شهدت العلاقات الثقافية والعلمية بين البلدين حركية كثيفة جسدتها الزيارات المتبادلة بين مثقفي وعلماء البلدين مثل الزيارة التي قام بها الوفد العماني من هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية الجزائر في نهاية العام الماضي، وزيارة عميد “جامع الجزائر” الشيخ محمد المأمون القاسمي الحسني إلى سلطنة عمان خلال شهر نوفمبر 2024 ولقائه بالمفتي العام لسلطنة عمان الشيخ أحمد بن حمد، وحسب بيان جامع الجزائر فإن اللقاء بين الطرفين تناول الأوضاع الراهنة التي تعيشها الأمة، والتحدّيات الكبرى التي تواجهها، والسبل الكفيلة بنشر دعوة الإسلام بمنهجه الوسطي الأصيل، والسعي لتصحيح المفاهيم في أوساط المسلمين، وبثّ مزيد من الوعي في مجتمعاتهم.
هذا بالإضافة إلى المشاركة في العديد من النشاطات الثقافية والعلمية المختلفة كالمعارض الدولية والمهرجانات الثقافية العربية، والملتقيات العلمية والأيام الدراسية منها على سبيل المثال اليوم الدراسي الذي عقد خلال شهر فيفري 2025 حول التعاون الجزائري العماني في مجال المتاحف وسبل تبادل الخبرات بين البلدين، وفي مجال الفضاء المكتبي تمّ تخصيص عدة أجنحة للإصدارات العمانية في عدة مراكز ثقافية جزائرية، على غرار المكتبة الوطنية الجزائرية، ومكتبة المجلس الأعلى للغة العربية، ومكتبة “جامع الجزائر”، هذا بالإضافة إلى الحركية الطلابية بين البلدين ،حيث قدمت الجزائر لأول مرة هذه السنة 2025 عشرة منح دراسية للطلبة العُمانيين، وفي الجانب المقابل، يقدّم البرنامج العماني للتعاون الثقافي والعلمي ثلاثة مقاعد دراسية للطلبة الجزائريين، موزّعة بين بعثتين ومنحة دراسية واحدة، وكل هذه الحركية الثقافية والعلمية كانت تتويجا لما تمخض عن الدورة الثامنة للجنة المشتركة الجزائرية -العمانية.
اليوم تأتي زيارة السلطان العُماني هيثم بن طارق إلى الجزائر هي الثانية بعد زيارة السلطان قابوس بن سعيد سنة 1973، وستكون نقطة تحوّل كبيرة في تعزيز العلاقات الثنائية، وحافزا قويا لتحويل العلاقات الجزائرية العمانية إلى شراكة إستراتيجية شاملة، خاصة أنها تعكس إرادة سياسية رفيعة المستوى لدفع التعاون إلى آفاق مستقبلية جديدة، ومنها على الخصوص التوقيع على اتفاقيات ومذكرات تفاهم جديدة في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمار والبحث العلمي والتعاون الثقافي، وإطلاق مشاريع إستراتيجية من شأنها تعزيز التبادل التجاري بين البلدين، بالإضافة إلى التعاون الأمني والعسكري لمواجهة مختلف التهديدات المشتركة والمرتبطة بالأمن القومي.