-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المدى البعيد.. الحل القريب!

المدى البعيد.. الحل القريب!

الاستمرارية في معناها العميق هي الحركة ضمن أفق المدى البعيد، سواء تَعلَّق الأمر بمؤسسة اقتصادية أو قطاع أو بحكومة أو دولة أو حتى فرد، فإن العامل الرئيس الذي يتحكم في الاستمرارية والبقاء ضمن الأقوياء، بالنسبة لأي طرف هو الاستيعاب المستمر لأفق المدى البعيد وعدم الانغماس في اللحظي، المباشر، الراهن أو ضمن أنفاق ودهاليز مغلقة النهايات. مشكلتنا في السياسة والاقتصاد وبناء العلاقات الاجتماعية ترتبط بهذه المسألة إلى حد بعيد…

ينبغي أن أسجل بداية أن الذي أوحى لي بهذا الموضوع هو عنوان كتاب أهداني إياه الأستاذ “وحيد غبغوب” من كلية العلوم السياسية. الكتاب عنوانه Le long terme comme horizon، صدر في أكتوبر 2017  بباريس عن دار Odile Jacob، لصاحبيه “فيليب دورانس، وريجين مونتي”، وقد سبق لي أن تعرفت على “فيليب دورانس” لمدة وجيزة عند مروري في سنة 2010 بمخبر “Lipsor” واتصالي برئيس كرسي الاستشراف آنذاك، الأستاذ ميشيل غودي الذي قمت بترجمة كتابه “الاستشراف الاستراتيجي للمؤسسات والأقاليم” إلى اللغة العربية، والآن يعتلي صاحب هذا المؤلف كرسي الاستشراف بالمخبر، وهو من المهتمين بالمستقبل ومن الأساتذة الباحثين في هذا المجال ممن يُمكن الاستفادة من خبرتهم بشكل كبير…

إن بلدنا اليوم في حاجة إلى الخروج من دائرة التفكير الضيق، إلى أفق المدى البعيد الرحب والواسع. وكل ما لدينا من امكانيات، وكل المكونات التي تُشكِّلنا كمجتمع وكدولة، تجعلنّا مُهيئين لأن نختار هذا الاتجاه، ونبتعد كل البعد عن كل تلك الحسابات الضيقة لفئات معينة أو افراد بعينهم.

ولا شك أن الدروس التي يُمكن استخلاصها من هذا المؤلَّف كثيرة، ذلك أنه عبارة عن حوارات مع المسؤول الأول أو المسؤول الأول عن الاستشراف، في 13 شركة فرنسية تمكنت من تحقيق الاستمرارية لمدة 100 عام أو أكثر، وخلاصات يمكن الاستفادة منها على أكثر من مستوى، إلا أننا سنكتفي بأكثرها أهمية بالنسبة لنا، كدولة وكمجتمع وكمسيرين لمؤسسات أو كقائمين على هيئات عامة أو خاصة.

ما الذي يُمكِّننا من الاستمرارية ؟ وفي ذات الوقت من البقاء أقوياء وقادرين على التطور والتكيّف مع مستجدات العصر؟

 للإجابة عن هذا السؤال ينبغي لنا، بكل تأكيد، التوقف لحظة عند هذه العلاقة المتميزة بين الاستمرارية والبقاء والقوة، ذلك أنه لا معنى للاستمرارية مع الضعف ولا معنى للبقاء ونحن تابعين لغيرنا من الأقوياء. الاستمرارية بهذا المعنى تُصبح شكلية والبقاء أيضا يصبح اصطناعيا وبلا معنى.

وهذا ما ينبغي بداية أن نتجنبه قبل الخوض في أي حديث بشأن “الاستمرار” في المستقبل أو العمل ضمن أفق المدى البعيد  الذي مَكَّن مؤسسات غيرنا من ذلك، وتبعا لذلك الدولة التي تنتمي لهذه المؤسسات من تبادل مكونات القوة والاستمرارية والبقاء.

وبعدها يمكننا الانتقال إلى المسألة الجوهرية الأولى، التي مكَّنَنَا منها هذا الكتاب وهي: أن أساس الاستمرارية والقوة  يَكمُن في امتلاك القيادة “لاتجاه كبير” من بين الاتجاهات الكبرى أو العظمى المطروحة أمامها أي أن يكون لديها (ميغاتراند)mégatrend، من خلاله تندرج ضمن خط عام تتوقع استمراره في المستقبل، وتتوقع أن يضمن لها درجة عالية من التكيّف الذي يَقِيها الأزمات. بدون ذلك لن تستطيع الاستمرار، بقاء القيادة ضمن حدود المدى القصير والمتوسط أو ضمن الاتجاهات الفرعية للتطور من شأنه أن يؤدي بها إلى نهايات غير حميدة أو إلى انسدادات قاتلة. 

ولعل هذه من بين المشكلات الرئيسة التي نعانيها في بلادنا، ليس فقط كمؤسسات صناعية أو تجارية، إنما كحكومة وكدولة، أصبحتا في كثير من الأحيان غير قادرتين على التفكير في المدى البعيد، غارقتين في تفاصيل المدى القصير، بل في تفاصيل مشاريع سابقة تسبب عدم التحكم في إنجازها إلى أن تتحول باستمرار من مشاريع بعنوان الماضي إلى مشاريع بعنوان المستقبل، كما هو الشأن في مجال البناء والتصنيع والتكوين وصولا إلى البناء السياسي وإلى تطوير الديمقراطية في المجتمع.

مما يعني أن الماضي ـ القريب ـ وهو غير التاريخ ـ ما فتئ يتحول لدينا باستمرار إلى مستقبل، وهي المشكلة التي ما فتئنا نعاني منها ولم نتمكن من تجاوز تبعاتها في واقعنا إلى اليوم، لنندرج ضمن اتجاه ثقيل وكبير في ذات الوقت، يكون هو “الميغاتراند” الذي يحكُمُنا في المستقبل.

وكنتيجة للخلل في هذا المستوى ـ مستوى الانطلاقة، والقرار الرئيس، أصبحت لدينا إشكالات على باقي المحاور الرئيسة التي أثار الكتاب النقاش حولها كشروط للقيادة الناجحة وهي:

ـ اختيارها الاتجاه الكبير “الميغاتراند” المرجعي، الذي يحكم باستمرار خيارات قائد المؤسسة.

ـ الارتباط المستمر بالمؤسسة وخصوصياتها.

ـ اليقظة الدائمة بشأن المواهب والأفكار الجديدة التي تبرز بداخلها، وكذا الاهتمام بالأفكار الصادرة عن الأقلية والتي يهملها الكثير من القادة.

ـ وأخيرا الاندراج ضمن أفق المدى البعيد.

وبالرغم من أن النتائج المستخلصة من التجارب الثلاث عشر المدروسة أثبتت أنه لا وجود لوصفة مضمونة يمكن تطبيقها والحصول على نتائج مؤكدة للجميع، إلا أن الاتفاق كاد يبدو واضحا لدى مختلف القائمين على التجارب التي برهنت قدرتها على الاستمرار والتفوّق، أن ما حققته إنما يعود لمسائل أربع رئيسة:

ـ فهم العلاقة القائمة بين الرؤية والتفكير الاستشرافي.

ـ التخطيط الاستراتيجي والتجنيد الجماعي.

ـ التنظيم والاستباق وتجنيد الموارد.

ـ التوفر على نماذج لتمثيل المستقبل.

ـ التحكم في التقلبات المتوقعة في السنوات المقبلة داخليا وخارجيا.

بما يعني أن هناك شروطا موضوعية ينبغي توفرها إذا أردنا ضمان تحقيق الاستمرارية في نطاق القوة والقدرة على المنافسة.

ولعل ما يثير الانتباه في الخلاصات التي وصل إليها هذا الكتاب أن كثيرا مِمَّا ينطبق على المؤسسة التجارية يكاد ينطبق على الدولة كمجموعة من المؤسسات، ولا نحتاج إلى كثير من العناء لنكتشف ذلك بأنفسنا ونؤكد أن الشعار الذي رفعه أحد السياسيين الجزائريين ذات يوم “تسيير الدولة كمؤسسة” هو صحيح تماما وينبغي تثمينه بغض النظر عن خلفيته الأيديولوجية أو حساباته الحزبية.

إن بلدنا اليوم بحق في حاجة إلى الخروج من دائرة التفكير الضيق إلى أفق المدى البعيد الرحب والواسع، وكل ما لدينا من امكانيات، وكل المكونات التي تُشكِّلنا كمجتمع وكدولة، تجعل مِنّا مُهيئين لأن نختار هذا الاتجاه، ونبتعد كل البعد عن كل تلك الحسابات الضيقة لفئات معينة أو أفراد بعينهم.

بإمكاننا أن نصوغ الاتجاه العام الثقيل والكبير الذي نريد أن تتطابق وجهتنا معه، وفي هذه الحالة لن يكون سنة 2019، أو 2024 في أقصى تقدير كما يطرح البعض اليوم، إنما أبعد من ذلك بكثير إلى ما بعد 15 و20 سنة من اليوم وأكثر.

كما يمكننا في ذات الوقت الانطلاق من داخل الحقائق التي تعرفها بلادنا مهما كانت إيجابية أو سلبية وبقيادات مُدرِكة لهذه الحقائق ومتمرسة عليها.

وكحقيقة موضوعية ينبغي أخذها بعين الاعتبار لم يعد لنا بديل أن نستثمر في المواهب وأن لا نُقصي أية فكرة خلاقة مهما كانت صادرة عن أٌقلية أو فئة غير ذات تأثير اليوم.

وفي الأخير يمكننا أن نجزم أنه لدينا من الكفاءات البشرية المؤهلة التي تجنبنا التقلبات المتوقعة في العقدين القادمين، والتي تُمكِّننا من التكيّف معها بأدنى الخسائر الممكنة.

بما يعني أنه يمكننا بالفعل، أن نصنع لنا مكانة في المستقبل، وأن نضمن لدولتنا الاستمرارية في عالم متقلب، فقط علينا اعتماد العلم في تسيير شؤوننا في مختلف المجالات، إن كانت اقتصادية أو سياسية أو غيرها… والعلم يؤكد لنا ضرورة جعل المدى البعيد أولوية بالنسبة للمدى القريب، وهذا لا يعني البتة الانفصال عن الحاضر أو المدى القريب أو عن التاريخ…

عكس ذلك إن التاريخ بهذا المنظور يُصبح قاعدتنا الصلبة للانطلاق وليس تلك الغرفة الخلفية التي نعود إليها إن لم يكن للتغني بالأمجاد، فللبكاء حصرة على ما ضحى من أجله الأجداد ولم نتمكن من الحفاظ عليه…

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • بدون اسم

    شكرا أستاذ سليم على المقال القيم..ليتنا ندرك كما يقول بن نبي رحمه الله أن "التاريخ ليس إلا قائمة إحصائية لعدد معين من الحركات و الأفكار، و لذلك من البديهي أن المجتمع الذي يسجل يوميا أكبر عدد ممكن من الحركات و الأفكار، يكون لنفسه محصولا اجتماعيا أكبر، فالفرد الذي يسير عشر خطوات، و يحرك يده عشر مرات، يقدم للمجتمع من الثمرات أكثر مما يقدمه فرد يسير خطوة واحدة و يحرك يده مرة واحدة.“

  • متسائل

    هل تتوفر إرادة تغيير و إصلاح حقيقية ؟ هل توجد استراتجية نهضة في جميع المجالات ؟ هل يتم تكوين نخبة ذات همة عالية مرتبطة بشعوبها اوطانها تاريخها متفتحة على العالم و لا تذوب فيه ؟ هل تكويننا نوعي لرفع التحديات في شتى المجالات ؟ هل المنظومة الحالية قادرة على هذه المهمة ام انها بحاجة لتاقلم ضخ دماء جديدة تفتح القضاء على الخونة و الانتهازين ؟ أسئلة كثيرة إحتار فيها الحكماء و المنظرون اما ان الانسانية جمعاء تعاني مشكلة نوعية و انسانية ؟

  • صالح بوقدير

    تعزير العملي بالنظري
    القائمون على الشأن العام يسيرون الدولة كمِؤسسةتماما كما استنتج الكاتب ويعملون بالإتجاه العام الثقيل
    "ميقاتراند"فهم بستشرفون المستقبل لأكر من خمسين سنة والأدلةعلى ذلك كثيرة لاينكرها إلا جاحد فالإستمراية مظمونة لهم ولو كأفراد فلعملي تعزز بالنظري ولذلك اعتاد الناس أن يقولوا:"أعطيه لي فاهم لا هلا قرا"