-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الوطن والوطنية في فكر ابن باديس

كمال أبوسنة
  • 329
  • 0
الوطن والوطنية في فكر ابن باديس

من العبارات الشهيرة التي وضعها الإمام الرئيس عبد الحميد بن باديس رحمه الله شعارا لمجلته “المنتقد”: (الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء)، ولم يكن هذا الإمام الفذ الحكيم يضع شعاراته وينشئها إلا وهو يقصد من ورائها غاية للتعليم والتوعية والبيان.
ولعل سائل يسأل: هل كان الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله ضيِّقَ الأفق لا تضبطه دلائل الشرع حتى يؤمن بالحدود بين البلدان الإسلامية ويتعصب للفكرة “الوطنية”؟ وما هذه الحدود التي فرّقت الأمة إلى أجزاء إلا صناعة الاستعمار الغربي الذي جاس خلال ديار المسلمين، ثم هي خلاصة تفاهمات شيطانية لسياسيين استعماريين هما: البريطاني سايكس، والفرنسي بيكو، حين جلسا على طاولة التفاوض لتقسيم تركة الخلافة الإسلامية ” الرجل المريض “مع بعض قوى الاستعمار الأخرى سنة 1916م-1917م!؟.
والحق أن الإمام ابن باديس رحمه الله كان يملك من الفقه الشرعي والواقعي والسياسي ما بوّأه ليكون صاحب بصر حديد، واجتهاد سديد، لا تحرّكه العواطف العواصف، بل تصدر آراؤه ومواقفه من عقل يحتكم إلى دلالات النصوص الشرعية، ويدرك حقائق الواقع والإحاطة بها، ولهذا كان حين يكتب في كثير من القضايا الشائكة يعرض رأيه بحنكة وسهولة، فيصل بقارئه إلى الغاية بكل هدوء وذكاء.
لقد كان الإمام ابن باديس رحمه الله مرتبطا وجدانيا وعقليا بالوطن، ولم يكن هذا الارتباط يمنعه من الشعور بأن باقي الأوطان الإسلامية هي امتدادٌ لهذا “الوطن الخاص” لأن خدمة الوطن الصغير تصب في دائرة خدمة الوطن الكبير الذي يجمعه الإسلام فتصبح هذه الحدود التي صنعتها السياسة مجرد خطوط وهمية لا تقدر على منع المسلم من الارتباط بأخيه المسلم حتى وإن تباعدت المسافات وحالت بينهم السدود، ولهذا يقول الإمام ابن باديس رحمه الله:
“نعم، إن لنا وراء هذا الوطن الخاص أوطاناً أخرى عزيزة علينا هي دائماً منا على بال، ونحن فيما نعمل لوطننا الخاص نعتقد أنه لابد أن نكون قد خدمناها وأوصلنا إليها النفع والخير، عن طريق خدمتنا لوطننا الخاص”.
إنّ ارتباط الإنسان بالمكان هو ارتباط فطري وجداني سرعان ما يتسع هذا الارتباط الذي يبدأ من الوطن الصغير “البيت والأسرة” إلى “الوطن الخاص” الذي تتسع دائرته شيئا فشيئا إلى أن تصبح “الإنسانية” وطنه الكبير، وفي هذا المعنى يقول الإمام ابن باديس رحمه الله:
“أما الجزائر فهي وطني الخاص الذي تربطني بأهله روابط من الماضي والحاضر والمستقبل بوجه خاص، وتفرض عليّ تلك الروابط لأجله، كجزء منه، فروضاً خاصة، وأنا أشعر بأن كل مقوماتي الشخصية مستمدة منه مباشرة، فأرى من الواجب أن تكون خدماتي أول ما تتصل بشيء تتصل به مباشرة…”.

الإمام ابن باديس رحمه الله لم يكن يفصل الدين عن أي مفهوم قيمي، فالوطنية بالضرورة لا تنفصل عن الدين الذي يراه العاصم لها من التعصب للجنس والانحراف، والدّاعي إلى نبذ كل أنواع الظلم، وهذا ما عبّر عنه حين قال: “نهضتنا نهضة بنينا على الدين أركانها، فكانت سلاما على البشرية، لا يخشاها والله النصراني لنصرانيته ولا اليهودي ليهوديته، بل ولا المجوسي لمجوسيته، ولكن يجب –والله- أن يخشاها الظالم لظلمه والدجال لدجله والخائن لخيانته”.

على أن الإمام ابن باديس رحمه الله لم يكن يفصل الدين عن أي مفهوم قيمي، فالوطنية بالضرورة لا تنفصل عن الدين الذي يراه العاصم لها من التعصب للجنس والانحراف، والدّاعي إلى نبذ كل أنواع الظلم، وهذا ما عبّر عنه حين قال: “نهضتنا نهضة بنينا على الدين أركانها، فكانت سلاما على البشرية، لا يخشاها والله النصراني لنصرانيته ولا اليهودي ليهوديته، بل ولا المجوسي لمجوسيته، ولكن يجب –والله- أن يخشاها الظالم لظلمه والدجال لدجله والخائن لخيانته”.
إن ارتباط المسلم بوطنه الذي وُلد فيه وترعرع عاطفيا لا يخالف أبدا واجب ارتباطه بوطنه الأكبر الموحد تحت راية “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، وتعدد الأوطان الخاصة لا يلغي وحدة الأمة الكبيرة، فالحدود المفروضة بحكم الاتفاقيات الدولية التي أصبحت واقعا سياسيا لا يمكنها أن تمنع المسلمين -على الأقل على مستوى الشعوب- من التواد والتعاطف والتعاون والتناصح والتناصر إلى أن تعود وحدتهم السياسية كما كانت قبل سقوط الخلافة.
وهذا الارتباط العاطفي الفطري بالوطن الخاص هو الذي جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يخاطب مكة، مربَّع ولادته، ومرتع صباه، وموقع سكنى الأهل والأحباب، قائلا:
(ما أطيبك من بلد، وأحبّك إليَّ، ولولا أنَّ قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك) [رواه الترمذي رقم 3926].
إن فكرة الوطن والوطنية فكرة صحيحة كما يرى إمامنا ابن باديس رحمه الله حين ترتبط بالدين وتتخلص من أي شكل من أشكال العصبية والعنصرية المقيتة، وتتحول إلى دعامة اجتماعية للوحدة والتلاحم بين أبناء المكان الواحد، ولكن يبقى المسلم دائما يؤمن بواجب أن يجتمع المسلمون في كيان واحد -لا تهم التسميات والمصطلحات- تذوب فيه الحدود المصطنعة فلا يحتاج الواحد منهم إلى “تأشيرة” لينتقل إلى أي أرض يُرفع فيها الأذان خمس مرات في اليوم، ويُكتب في بطاقة تعريفه أو جواز سفره “مسلم” للتعبير عن جنسيته، وكفى بالإسلام هوية وانتسابا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!