-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

روسيا والأزمة الأوكرانية الجزء الثاني والأخير

روسيا والأزمة الأوكرانية الجزء الثاني والأخير

العالم الآن هو ورشة اقتصادية وصناعية وتكنولوجية تديرها شركاتٌ عالمية متعددة الجنسيات همُّها البحث عن السوق والربح بغضّ النظر عن الحيّز الجغرافي.

الصين بسوق لنحو مليار ونصف مليار نسمة تأتي في مقدمة الدول المستقطِبة  للشركات الأمريكية. حاول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إقناع الشركات الأمريكية بالخارج العودة  للاستثمار بــداخل الولايات المتحدة بتبني سياسة أكثر ائتمانا وتخفيض الضرائب، ولكنها لم تتجاوب مع ذلك بحكم انخفاض تكلفة الإنتاج خاصة العمالة والسوق المتواجدة أكثر بآسيا (%60 من سكان العالم).

على مستوى عالم الجنوب تزامنت الأزمة الأوكرانية مع تضاعف التوجهات المتزايدة المطالِبة بعالم متعدد الأقطاب. الظرف الدولي جاهز، دول عالم الجنوب بما فيها دول محسوبة تقليدياً لعقود من الزمن على الغرب، بدأت تتبني سياسات أقل ارتباطا بالغرب على غرار السعودية التي تبنت قرار تخفيض إنتاج البترول رغم طلب الولايات المتحدة الأمريكية بمضاعفة الإنتاج لتلبية حاجة السوق الغربية. اتخذت السعودية قراراً مخالفاً لذلك ومتوافقا مع دول الأوبك بتخفيض كمية الإنتاج للمحافظة على سعر النفط وبالتالي حماية المصالح الاقتصادية السعودية.

يمكن تفسير الأزمة الأوكرانية كذلك على المستوى الدولي ضمن إستراتيجية الأحادية القطبية من خلال استنزاف روسيا بإدخالها في حروب وأزمات إقليمية على حدودها وحصارها اقتصادياً خاصة بالعقوبات واهتزاز روسيا كقوة عسكرية أولى في العالم من ناحية التفوق في امتلاك الرؤوس النووية، والتوجه لاحقاً إلى الصين.

التوجه السعودي حاليا هو نحو تحقيق نهضة شاملة، ويبدو أن الاختيار هو التوازن بين الغرب من جهة والصين ومجموعة البريكس ككل من جهة أخرى (البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب إفريقيا.

بعد الأزمة الأوكرانية سيتضاعف التنسيق الروسي السعودي خاصة في مجال الطاقة من خلال الأوبيك حيث انخفاض الطلب على البترول والغاز يترتب عنه انخفاضُ الأسعار، وبالتالي تجد الدولتان السعودية وروسيا نفسيهما مضطرتين للتنسيق للمحافظة على سقف الأسعار. إضافة إلى ذلك، فإنّ السعودية من بين المرشحين الأوائل للانضمام إلى البريكس رفقة الجزائر ومصر وإيران والأرجنتين، وبالتالي دخول  السعودية في محيط سياسي واقتصادي واستراتيجي خارج المحيط الغربي مشروع وتوجُّه دولي لإصلاح المنظومة الدولية، خاصة الاقتصادية والمالية منها، بهدف تجسيد فعلي للتوازن والمنفعة المتبادلة.

أكدت الأزمة الأوكرانية مرة أخرى لدول عالم الجنوب هشاشة العلاقات الاقتصادية مع الغرب والقائمة على تصدير الموارد الطبيعية والمتحكم فيها محليا، أساسا، من طرف الشركات الغربية واستيراد المنتجات الجاهزة للاستهلاك إلى درجة تقييد سيادة دولها والمسّ بأمن شعوبها خاصة عندما يتعلق الأمر بالأمن الغذائي أو الحروب المحلية والأزمات الإقليمية. هذه الأخيرة التي دفع فيها الثمنَ أطرافُ الأزمة، سواء إنسانياً أو بنيوياً أو مالياً بما فيها تخصيص نسبة تتجاوز 30% من شراء الأسلحة والمعدات العسكرية بدلاً من توجيهها إلى التنمية الاقتصادية والتطور الصناعي. بالعالم العربي والشرق الأوسط، منذ الحرب العراقية – الإيرانية (1979-1988) مروراً بالحرب العراقية الكويتية وتحرير الكويت (1991) واحتلال أمريكا للعراق سنة 2003، إلى ما يسمى بالربيع العربي منذ 2011 (ضرب الحلف الأطلسي إلى ليبيا والإطاحة بنظامي القذافي بليبيا زين العابدين بتونس بدعم من الغرب باعتراف السيدة كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، الحملة الغربية ضد سوريا، الأزمة اليمنية…). يقدِّر البعض أن الرقم المالي المستنزَف بالعالمين العربي والإسلامي يتجاوز 9000 مليار دولار ذهبت لشراء الأسلحة والمعدّات العسكرية لإدارة حروب وأزمات كان بالإمكان احتواؤُها سياسياً قبل حدوثها. وحتى الأسلحة التي تم شراؤُها متحكم فيها من طرف منتجيها، وبواقع التكنولوجيا المتجددة بسرعة  فإنّ الكثير من الأسلحة أصبحت تقليدية في حضور التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي كالطائرات المسيَّرة والحروب الفضائية والصواريخ التي تتجاوز سرعة الضوء وتعجز عن صدِّها بالصواريخ الباليسيتية   والهجمات السيبرانية…

تكاد الجزائر الدولية تكون العربية والإسلامية الوحيدة التي لم تدخل أو تتدخل  في الحروب والأزمات في المنطقة مطالبة بالحلول السلمية والسياسية. ذلك راجع لقراءة وإدراك  للتحديات والاستفزازات لعالمينا العربي والإسلامي الذي يشكل فيه التضامن الإسلامي أكبر تحدي للكيان الصهيوني مصدر التهديدات والتحديات في المنطقة.

يمكن تفسير الأزمة الأوكرانية كذلك على المستوى الدولي ضمن إستراتيجية الأحادية القطبية من خلال استنزاف روسيا بإدخالها في حروب وأزمات إقليمية على حدودها وحصارها اقتصادياً خاصة بالعقوبات واهتزاز روسيا كقوة عسكرية أولى في العالم من ناحية التفوق في امتلاك الرؤوس النووية، والتوجه لاحقاً إلى الصين من خلال حصار الصين عبر مضيق تايوان، ومواجهة الصين في استرجاع تايوان إلى الأرض الأمّ، وإدخال الصين في أزمات عبر بحر الصين الجنوبي.

بذلك تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد حققت أهدافاً استراتيجية متعددة، وعلى رأسها تقييد مبادرة الحزام والطريق (المنفعة المتبادلة: رابح- رابح) ومجموعة البريكس (إصلاح المؤسسات الدولية اقتصاديا وسياسيا..) والأوراسية الجديدة (التي قدّمها المفكر الاستراتيجي الروسي “ألكسندر دوغين” المتضمنة احتواء السياسة الغربية المتطرفة في العالم والتوجه نحو عالم متعدد الأقطاب….) الذين يتزايد تأثيرهم إقليميا ودوليا خاصة إصلاح المنظومة الدولية ضمن الوصول إلى توازن دولي وتكافؤ في الفرص.

خلافا لذلك يأتي المنظور الأمريكي  القائم على استمرار  السير التقليدي  للعلاقات الدولية والمؤسسات الدولية التقليدية وخاصة الاقتصادية منها مثل المؤسسات المالية والاقتصادية والتجارية الدولية (صندوق النقد الدولي، البنك العالمي، منظمة التجارة العالمية، اتفاقية بريتون وودز وثقل الدولار الأمريكي على السيولة المالية العالمية…) وعسكرياً تعزيز استمرار حلف الناتو والتحالف الأمريكي– الأوروبي.

هو منظورٌ أمريكي سائد منذ على الأقل الحرب العالمية الثانية ولكن قد لا يستمر كذلك. آليات ووسائل الاستمرار خاصة من الجانب الاقتصادي لم تبق تحت سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية. هناك قوى دولية كبرى مثل وروسيا والصين تشكل ثقلا مؤثرا إلى درجة تقييد التوجُّه الأمريكي. الاقتصاد العالمي لم يبق تمليه الدولة الأمريكية بما فيها الاقتصاد الأمريكي والذي ثقله هو شركاتٌ أمريكية متواجدة خارج الولايات المتحدة الأمريكية وتبحث عن مصالحها بغضِّ النظر عن السياسة الأمريكية. حاول مثلاً الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” استرجاع الشركات الأمريكية التي تستثمر بالصين وبدول أخرى من خلال تقديم ائتمانات ضريبية (تخفيض نسبة الضرائب…) لتمكينها من العودة للاستثمار بأمريكا. رغم ذلك بقيت الشركات الأمريكية بالصين بسبب انخفاض التكلفة وسهولة التسويق بما فيها التسويق داخل الصين لمليار و400 مليون نسمة. ولن يكون في المستقبل القريب بإمكان الولايات المتحدة استرجاع الشركات الأمريكية بسبب الوسائل والإمكانات التقليدية للإنتاج، والتي تجاوزتها الصين وجعلت الشركات الأمريكية أكثر ميلاً للاستثمار بالصين. إضافة إلى ذلك أن الشركات الأمريكية بالصين موجودة في آسيا التي تشكل نسبة 60 من سكان العالم.

في النهاية، إن الظرف الدولي والتحولات الدولية بأبعادها الاقتصادية سيعزز الوصول إلى عالم متعدد الأقطاب وتوازن دولي يؤدي إلى مجالات جديدة للتعاون الإقليمي والدولي بدلا من الحروب والأزمات والمس باستقرار الشعوب والأمم الناتجة عن التدخلات العسكرية التي ضربت كيانات دول ومست باستقرار أمم وشعوب والتي شكل فيها  العالم العربي ميدانا لذلك. عالم يسود فيه التكافؤ في الفرص يخدم الجميع بما فيه العالم الغربي. هذا الأخير الذي يعاني لعقود من اهتزازات وهي تتصاعد خاصة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بسبب العولمة المتطرفة التي تقودها مراكز قوى مالية بغضِّ النظر عن الدول والحكومات الغربية.

التصعيد العسكري في الأزمة الأوكرانية والأزمات الأخرى في العالم  لن يؤدي طبعا إلى حلول بما فيها المجابهة الراهنة بين الغرب وروسيا مثلما أكده هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي السابق ومهندس السياسة الأمريكية لعقود. روسيا قوة عسكرية كبرى نووية وهي الأولى عالميا من حيث الرؤوس النووية، وتاريخيا انتصرت في كل الحروب من أجل أمنها القومي وآخرها الحرب العالمية الثانية رغم حجم التضحيات المهولة للاتحاد السوفييتي آنذاك (أزيد من 27 مليون خسائر بشرية).

المجابهة وحرب الاستنزاف مع روسيا لن يدفعها إلى التراجع خاصة في ظلّ امتلاكها للسلاح النووي، وضعٌ سيمس بأمن الجميع. الاختيار الواقعي هو حل سياسي للأزمة الأوكرانية يضمن إبعاد التهديدات للأمن القومي الروسي وليس تسوية بأبعاد تكتيكية هدفها ربح الوقت كما عبرت عنه المستشارة الألمانية السابقة ميركل أوعبر عنه الرئيس الفرنسي السابق هولاند. حياد أوكرانيا يخدم مصالح واستقرار الجميع والتصعيد لن يؤدي إلا إلى ضرب مصالح ودمار الجميع.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!