نحن أولى بمكارم الأخلاق من اليابانيين

يتداول النّاشطون على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع كثيرة تصوّر بعضا من أخلاق اليابانيين في حياتهم اليوميّة، في مدارسهم وجامعاتهم، وفي طرقهم العامّة ووسائل مواصلاتهم؛ أخلاق هي في الأصل من مقتضيات الإنسانيّة، وكان يفترض أن تكون سمة لكلّ إنسان أينما كان، لكن ولأنّنا في مجتمعاتنا العربيّة خاصّة، تنكّبنا –إلا من رحم الله منّا- عن كثير من مقتضيات الإنسانية، وتنكّرنا لوصايا خاتم الأنبياء –عليه الصّلاة والسّلام- الذي أكّد على أنّ من أهمّ أسباب بعثته إتمامَ مكارم الأخلاق؛ فقد أصبحت مظاهر التحلّي بالأخلاق الحسنة في واقعنا خيارا غريبا يسترعي الانتباه، وربّما نثمّنه في يوميات صفحاتنا ونخالفه في تفاصيل حياتنا!
في قرون مضت، كان المسلمون سادة الدّنيا في الأخلاق؛ ينظرون إليها كما ينظرون إلى الأرزاق؛ يجتهدون ويجاهدون أنفسهم في التحلّي بمكارمها والتخلّي عن مساوئها، تماما كما يجتهدون في طلب أرزاقهم؛ فسادوا الدّنيا وملكوا القلوب والعقول وأسروا الأرواح، وكانوا دعاة بأخلاقهم ومواقفهم قبل كلماتهم وعباراتهم.. أوصلوا الإسلام إلى أقاصي العالم، يوم جعلوا الدّين واقعا عاشوه كلاما طيّبا ووجوها مشرقة وأمانة ووفاءً وحلما وعفوا وصبرا وسخاءً وبذلا.. لكنّ المسلمين في هذا الزّمان، عندما قلّ اهتمامهم بالأخلاق وبأثرها في صلاح الدّين والدّنيا، تهاوت طباع بعضهم وصاروا سببا في صدّ كثير من النّاس عن دين الله جلّ وعلا.
انحدار خطير ليس له نظير
في كلّ يوم يخرج الواحد منّا من بيته متّجها إلى مكان عمله أو إلى السّوق لقضاء حاجياته، فيرى من المواقف ما يندى له الجبين؛ يرى الأنانية القاتلة ويرى الخصومات التي تنشب لأتفه الأسباب في الطّرق والأسواق، ويسمع من الكلام ما يصمّ الآذان ويدمي القلوب، ويدخل إلى المصالح والإدارات فيرى اللامبالاة وإضاعة الأمانات وخيانة الوظائف والمسؤوليات، ويدخل إلى المستشفيات والمستوصفات فيرى كيف أصبحت الرّحمة هي الغائب الأكبر.. بل ولم تسلم بيوت الله من مساوئ أخلاقنا مع كلّ أسف! تكدّرت الأنفس وضاقت الصّدور وتجهّمت الوجوه، وصار المسلم لا يحتمل قرب أخيه المسلم في بيت الله الذي يفترض أن تتقارب فيه الأجساد وتتعانق القلوب، فضلا عن غيره من الأماكن، وأصبح المسلم لا يحتمل من أخيه الخطأ والزّلل مهما كان هيّنا بسيطا، بل ويرفض من أخيه ما يقع فيه ويعتذر لنفسه بما لا يقبل الاعتذار به لأخيه!
ضاع الحِلم وقلّ العفو والصّفح وصار الردّ بالمثل أو بالتي هي أسوأ ديدن كثير منّا.. قلّ التّناصح وساد التّفاضح، وانتشرت الغيبة في أوساطنا انتشار النّار في الهشيم وصارت فاكهة كلّ المجالس، وصار من أندر وأعزّ المواقف أن تجد مجلسا يخلو من الغيبة والوقيعة في أعراض النّاس.. عُقّ الوالدان وقطعت الأرحام وأسيء الجوار وانتشرت العداوات وعمّت القطيعة والبغضاء إلا ما رحم الله. عصت الزّوجات الأزواج وظلم الأزواج الزّوجات، وعقّ الأبناء الآباء وضيّع الآباء الأبناء إلا من رحم الله. عمّ التفحّش في الكلام وصارت الكلمات البذيئة والنّابية تنطلق من الأفواه لأتفه الأسباب. الأب يسبّ أبناءه بأقذع وأبشع الألفاظ، والأخ يسبّ أخته بأقبح الكلمات. بل صار بعض الأبناء لا يجدون غضاضة في سبّ آبائهم وأمّهاتهم بما يندى الجبين لسماعه فضلا عن حكايته، وصار كثير من المسلمين وبخاصّة الشّباب لا يكاد ينطق الواحد منهم إلا بساقط الكلام وبذيء القول ممّا يحوم حول العورات والسّوءات، حتى أضحى العبد المؤمن الحييّ يندى جبينه وهو يسير في الشّارع لِمَا يقرع سمعه من كلام فاحش.. قلّ الحياء بل صار عند كثير من شبابنا وفتياتنا تخلفا ورجعية وموضة قديمة أكل عليها الدّهر وشرب، وأصبح أمرا عاديا أن يقف شبابنا على قوارع الطّرقات ليتشبّبوا ببنات المسلمين وليُسمعوهنّ كلّ كلمة ساقطة وبذيئة، وأضحى أمرا مألوفا أن تمازح الفتاة المسلمة زملاءها في الدّراسة وتضاحكهم في المدرسة وفي الشّارع، وغدَا مقبولا أن تجلس الفتاة المسلمة إلى جانب أخيها وأمّها وأبيها لمتابعة مسلسل ينضح بكلّ ما يخدش الحياء ويهدم الأخلاق.
انتشر البخل وعمّ الشحّ إلا ما رحم الله.. قلّ الوفاء وصار سلعة نادرة بيننا ونحن المسلمين المؤمنين، وصار المسلم الذي يفي بعهده ولا يخلف وعده غريبا بين النّاس؛ قلّما تجد من يعد وعدا ويفي به في وقته إلا من رحم الله. قلّ أن تضرب موعدا لأخ من إخوانك فيأتيك في الوقت المحدّد، وقلّ أن تُقرض أخا من إخوانك مبلغا من المال فيوفّيك إياه في الموعد المتّفق عليه، بل صار بعض من قلّت مروءتهم وأمانتهم لا يجد الواحد منهم حرجا في أن يستدين من أحد إخوانه ثمّ يتحاشى لقاءه وربّما يعاديه حتى لا يطالبه بالسّداد.
ضُيّعت الأمانة وصارت عند كثير من المسلمين مغنما، وأصبح كلّ من يضيّع مالا أو متاعا ييأس من رجوعه إليه، بل أصبح المرء لا يأمن على ماله ومتاعه في بيوت الله؛ فأين الإسلام يوم صارت الأمتعة تسرق من المساجد ويضطرّ المصلّون لوضع أحذيتهم بجانب المصاحف حتى لا تُسرق، والله المستعان؟!
هذه هي مكانة الأخلاق.. فهل من مشمّر؟
إنّ صلاح الدنيا وصلاح الآخرة بصلاح الأخلاق؛ يقول نبيّ الهدى صلّى الله عليه وآله وسلّم: “إنّكم لن تسَعوا النّاس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق”.. السّعادة كلّ السّعادة في تقوى الله وحسن الخلق؛ يوم يكون قلب المسلم نقيا طاهرا لإخوانه، ولسانُه عفيفا عن أعراضهم. يوم يكفّ العبد المؤمن أذاه عن إخوانه، ويحلُم ويتجاوز ويصفح عن أذاهم ويقابل الإساءة بالإحسان والخطيئة بالغفران. يوم يجود مِن هذه الدّنيا الفانية ليسعف خلاّنه، ويسعى في حاجاتهم كما يسعى في حاجته.
حسن الأخلاق سبب لطول الأعمار وسلامة الأبدان وسعة الأرزاق، قال يحيى بن معاذ عليه رحمة الله: “في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق”. حسن الخلق يبلغ بصاحبه درجات قائم اللّيل وصائم النّهار، بل إنّ أثقل شيء في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة حسن الخلق، وأكثرَ ما يدخل الجنّة تقوى الله وحسن الخلق، وأقربَ النّاس منازل من رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام- في الجنّة يوم القيامة أحاسنهم أخلاقا.
وماذا بعد؟
اليابانيون لا يعتنق أغلبهم دينا يرغّبهم في حسن الخلق ويعدهم الثّواب الجزيل على لزومه، لكنّهم طلبوا ما يصلح دنياهم ويُسعد مجتمعهم، فوجدوا في الجدّ والمثابرة ومحاسن الأخلاق بُغيتهم، فوطّنوا أنفسهم عليها، وتعاونوا على نشرها ولزومها، حتى أصبحت مساوئ الأخلاق غريبة بينهم.. فما الذي يمنعنا نحن المسلمين الذين ندين لله بدين تعتبر الأخلاق الحسنة أهمّ مقوّماته، وتتواتر نصوصه بأنّ أرفع المسلمين قدرا في الدّنيا والآخرة أحاسنهم أخلاقا؛ ما الذي يمنعنا من تغيير واقعنا؟ التّغيير ممكن متى ما أصبحت “إشاعة الأخلاق الحسنة ومحاربة الأخلاق السيّئة” مشروعا مجتمعيا، يتربّع على سلّم الأولويات على المنابر المسجدية والإعلاميّة، ومتى ما استطعنا صناعة قدوات تتحرّك في الواقع وتخرج من التّنظير إلى التّطبيق.. الأخلاق الحسنة تُكتسب بالمجاهدة والصّبر كما قال النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام-: “إنّما الحلم بالتحلّم”، وكما قال بعض الحكماء: “الأخلاق كالأرزاق”. فقط نحتاج إلى الاهتمام.. ليس مستحيلا أن يغيّر الواحد منّا حياته، ويطهّر أخلاقه. يقول العلماء إنّ جماع الأخلاق الحسنة في أمور ثلاثة: “بسط الوجه، وبذل النّدى، وكفّ الأذى”؛ بسط الوجه أي بشاشته وابتسامته في وجوه عباد الله المؤمنين. بذل النّدى، أي بذل الصّدقات والإعانات لعباد الله المؤمنين، ومجاهدة النّفس على التخلّص من البخل والشحّ. وكفّ الأذى، أي أن يمسك المؤمن لسانه ويده عن أذية عباد الله، ويدفع بالتي هي أحسن السيّئة، ويعفو عمّن ظلمه، ويعطي من حرمه.. ربّما تكون هذه الأخلاق في البداية غريبة على النّفس التي اعتادت الضّيق والأنانية والشحّ، وعلى اللّسان الذي اعتاد البذاءة؛ لكنّها ستتحوّل إلى طبع متى ما ظلّ الهدف ماثلا أمام كلّ متطلّع إلى التّغيير.