-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ويسألونك عن “اللغة العربية والتنمية”!

ويسألونك عن “اللغة العربية والتنمية”!

بطلب من تسع دول عربية، منها الجزائر، تم تبني قرار الأمم المتحدة رقم 3190 بتاريخ 18 ديسمبر 1973. ويوصي هذا القرار بجعل اللغة العربية لغة رسمية للجمعية العامة. وبعد عقود صار يوم 18 ديسمبر اليوم العالمي للغة العربية وفق ما أقرّته هذه المنظمة. ومنذ ذلك الحين أصبح الاحتفاء بهذا اليوم منتشرا في كثير من البلدان ومنها الجزائر.

وفي هذا السياق، قرر المجمع الجزائري للغة العربية تنظيم أول مؤتمر له أيام 16-18 ديسمبر الجاري بالعاصمة حيث خصّص اليوم الأول لاجتماعاته الداخلية وللتكريمات والاعلان عن الفائز بجائزته. أما اليومان 17-18 ديسمبر فنَظّم خلالهما ملتقى دوليا حول “اللغة العربية والتنمية”. دعنا نشير قبل الحديث عن مداخلات هذا الملتقى، إلى أن المكرّمين هم الأساتذة الأفاضل عمار طالبي وتواتي بن تواتي ومصطفى حركات، وكذا الخطاط محمد بن سعيد شريفي الملقب بشيخ الخطاطين. وقد فاز بجائزة المجمع الأولى الأستاذ شعيب حبيلة من جامعة جيجل، وتم حجب الجائزتين الثانية والثالثة.
وكان عنوان الملتقى هو “اللغة العربية والتنمية” حدد له المنظمون خمسة محاور هي الترجمة وخدمة التنمية (4 مداخلات)/ الهيمنة اللغوية العالمية وتعزيز القدرة التنافسية للغة العربية (4 مداخلات)/ الأسس النظرية لعلاقة اللغة العربية بالتنمية (1)/ اللغة العربية ومجتمع المعرفة وعلوم التكنولوجيا والاتصال أدوات في خدمة التنمية (5)/ التخطيط اللغوي للتنمية، اللغة العربية في المنظومة التعليمية (10). وكما يحدث في كل الملتقيات فقد غابت بعض المداخلات وألقيت بعضها عن بعد من باكستان وتونس وتركيا وقطر والعراق ومن داخل البلاد.
وأول موضوع قدم في الملتقى كان للأستاذة سعيدة كحيل (من المجمع) تناولت فيه الوحدات المصطلحية العربية باستخدام أدوات الترجمة في مجال المال والأعمال. وقد دعت المحاضرة بوجه خاص إلى تأهيل المترجم العربي في هذا الحقل وإلى تنمية لغة عربية فيه عبر الترجمة. وتساءل الأستاذ جلال مراد (تونس) عن أبعاد الترجمة والتنمية ونتائجها. فالترجمة أداة قوية تساعد على تحقيق التنمية في جميع المجالات لأنها تنقل لنا المعرفة في حقل الثقافة والاقتصاد والابتكارات والتكنولوجيات فتتقلص بذلك الفجوة بين العالم المتقدم ودولنا النامية. ويشاركه في هذا الرأي متدخلون آخرون حيث رأوا أن الترجمة إلى اللغة العربية من شأنها أن تنمي لغة الضاد. كما تناولت مداخلة أخرى اللغة العربية في دنيا السياحة والفندقة.
وفي المحور الثاني كانت مداخلة الأستاذ محمد صاري (من المجمع) من أبرز المداخلات حيث رصد واقع اللغة العربية وحاول استشراف مستقبلها على ضوء ما يجري في العالم من تحولات كبرى في المجتمعات الصناعية والرقمية. ويَعتبر المحاضر مع متتبعين آخرين من خبراء “الأمن اللغوي” أن ثمة سياسات لغوية متصادمة لابد من التفطن إليها والتعامل معها بذكاء. ومن المداخلات الأخرى تلك التي تناولت آفاق ترقية اللغة العربية لتحقيق التنمية الفكرية. وخلصت المداخلة إلى أن العولمة عمدت إلى المساس باللغة العربية لمّا أدركت قوتها وأنها تحمل فكرا إنسانيا راقيا فسعت إلى إعادة صياغة قيم وثقافة وسلوكيات جديدة تؤسس لهوية حضارية جديدة لا تساير الذاكرة التاريخية الحضارية للشعوب، خاصة الإسلامية.
وتطرقت بعض مداخلات تأثير وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي على اللغات بصفة عامة واللغة العربية بصفة خاصة. بينما اهتم آخرون بالذكاء الاصطناعي ومستقبل التعليم الرقمي باللغة العربية. فهذا الذكاء قادر على تقديم خدمات جليلة تدعم انتشار اللغة العربية وتطورها. وتساءل الكثير عن إنتاج المعرفة باللغة العربية وذهبت الأستاذة وهيبة بوربعين (جامعة عين تموشنت) إلى إحصاء ما يتم إنتاجه من معارف باللغة العربية في العلوم الطبيعية (النشر العلمي، براءات الاختراع) وفي العلوم الإنسانية (القصة والرواية، المسرح…).
وفي سياق مشابه عالج الأستاذ بشير إبرير (من المجمع) القدرة التنافسية للغة العربية في سوق اللغات العالمية. ورأى المحاضر أن صياغة سياسة لغوية رشيدة يُعدّ مسألة اقتصادية يجب أن تحظى بالأسبقية كما أكد على أن استرجاع الهوية اللغوية يندرج ضمن استرجاع الهوية الاقتصادية. واختتم كلامه مرددا مقولة المفكر السعودي عبد الله البريدي “لا نهضة حضارية لنا إلا بقدر كاف من الأنفة الثقافية”… فلتكن لنا “أنفة ثقافية”!
ومن العراق تحدث الأستاذ محمد صالح الجبوري عن دور مجمع القاهرة في التخطيط لخدمة اللغة العربية وتنميتها. ومن خميس مليانة ركزت الأستاذة زهرة طاهر جبور على دور السياسة والأنشطة الاقتصادية في تنمية اللغات. ومن خنشلة تناولت الأستاذة نعيمة شلغوم التخطيط اللغوي في عصر الرقمنة، ورأت أن التخطيط اللغوي الرقمي يساهم في تعزيز الهوية اللغوية. وفي نفس الاتجاه جاءت مداخلة الأستاذ عصام خروبي من قسنطينة. كما خاض الأستاذ محمود شاوش من تركيا في تحديد دور التخطيط اللغوي في تطوير المناهج الدراسية الخاصة باللغة العربية، فدعا إلى السعي نحو التعليم النوعي ومواكبة التغير المتسارع في الكمّ المعرفي.
وأما الأستاذة أمينة طيبي (جامعة بلعباس) فبحثت في معايير تنمية الحصيلة اللغوية داخل الكتب المدرسية للمرحلة الابتدائية مثيرةً عديد المسائل الشائكة في منظومتنا التربوية في شقها اللغوي. ولاحظت أن تراجع الحجم الساعي لمادة القراءة واختفاء حصة القراءة الموجهة في البرنامج المدرسي أدى إلى ظهور جيل من التلاميذ يواجه صعوبات جمّة في كتابة نص وصفي من خمسة أسطر. ومن الأسباب الرئيسية لهذه الظاهرة افتقاد التلميذ لرصيد مفرداتي كاف. وأشارت المحاضِرة إلى أن إخفاق التلاميذ في بعض المواد مردّه عدم امتلاكهم لناصية اللغة، وهذا ما يدفعهم إلى الحفظ (الحلول الجاهزة) في المواد العلمية كوسيلة تمكنهم من الحصول على معدلات مرتفعة في الامتحانات دون استغلال قدراتهم الفكرية. وفي نفس السياق، ارتجل الأستاذ عمر لحسن (من المجمع) متفائلا في مداخلته حول التخطيط اللغوي في الجزائر وأثره في بناء المنظومة التربوية. ودعا إلى التقليل من البرامج الدراسية حتى نسمح للمتعلم باكتساب اللغة أكثر من المعرفة. وكانت كلمة رئيس الملتقى الأستاذ صالح خنّور (من المجمع) وجيزة استعرض فيها محاور المؤتمر ملحا على أهمية ربط التنمية باللغة.
أما رئيس المجمع الأستاذ الشريف مريبعي فقد كانت كلمته ترمي إلى التعريف بمشاريع مؤسسته وتحديد مهام لجانها العاملة والدعوة إلى تنسيق الجهود بين مختلف الهيئات الوطنية والعربية الساعية إلى تمكين اللغة العربية في كل المجالات. ومن بين ما أوصى به الملتقى والحاضرون العمل على تعميم تدريس كل الاختصاصات باللغة العربية إذ أن التنمية لا تكون إلا بلغة البلاد. فمن المعيقات والتحديات التي تواجه اللغة العربية قدرة اللغة على أن تكون أداة إبداع فكري. كما ينبغي الحفاظ على التوازن بين مصلحة الدولة ومصلحة الأفراد في المجال اللغوي.

وهكذا نرى أن الملتقى كان ناجحا وثريا بمواضيع متكاملة، وحبذا لو خصصت فترة أطول للمداخلات حتى تكون أفيد للحاضرين. وعلى كل حال، فقد بذل المجمع جهودا مضنية لإصدار الأعمال الكاملة لهذا الملتقى في كتاب جميل يقع في 612 صفحة وزع على جميع الحضور قبل انطلاق الملتقى. نتمنى أن يواصل المجمع في هذا المسعى النبيل خدمة للغة الضاد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!