“آسيا جبار ماتت وهي مشتاقة إلى أن تترجم رواياتها إلى العربية”
فارقت الحياة آسيا جبار، الكاتبة الجزائرية المغتربة، والجزائر تعيش في داخلها لم تفارقها أبدا، محترمة اللغة العربية التي لم تتمكن الكتابة بها، مشتاقة إلى أن ترى رواياتها تترجم إليها. أوصت بأن تدفن في مسقط رأسها شرشال. بينما أوصى محمد ديب بأن يدفن في باريس، وقبل أشهر من وفاته أوصى الكتاب الجزائريين بأن يتخلوا عن اللغة العربية الميتة وأن يكتبوا باللغة الفرنسية الحية.
فقد نـشرت صحيفة الشرق الأوسط التي تصدر بلندن، في عددها الصادر في 20/1/2003 ، تصريحا لمحمد ديب، ضمّـنه الكاتب حسونة المصباحي مقالا له عنوانه [ثقافات العالم]، قال فيه محمد ديب: “على الكتاب الجزائريين أن يخجلوا من الكتابة باللغة العربية، هذه اللغة القديمة الكلاسيكية التي تضاهي اللغة اللاتينية الميتة وأن يكتبوا بالفرنسية“. وعند وفاته أمر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بأن ينقل جثمانه ليدفن في تلمسان مع إقامة مناسبة كبيرة لتأبينه، لكن زوجة محمد ديب اتصلت بالسفارة الجزائرية بباريس وأخبرتها بأنه أوصى بأن يدفن في باريس. مع الملاحظة أن محمد ديب ينتمي إلى أسرة عربية لكنه يكره العربية، لكن آسيا جبار تنتمي إلى أسرة أمازيغية اسمها الأصلي فاطمة الزهراء إيمالاين وهي تعشق العربية ولم ترفع شعار الأمازيغية في حياتها وتقول أنا عربية ولغتي العربية حكم عليها أن تكتب بالفرنسية.
الحس الوطني في كتابات آسيا جبار:
إذا استعرضنا رواياتها منذ “العطش” المنشورة عام 1957 إلى غاية روايتها الأخيرة “لا مكان في بيت أبي” (Nulle part dans la maison de mon père، 2007) وجدنا أنها كانت تتابع الأحداث التي مر بها وطنها، وكأنها كانت تعيش بين الجزائريين، يشعر القارئ أن عين الكاتبة لم تفارق شرشال ومجتمعات شنوة. كانت تعبر عن حبها للغة العربية وعن حزنها لأنها لم تكتب بها، قائلة: “إني أكتب بلغة العدو“. وقد ساعدها على ذلك كونها ابنة معلم كان يحب العربية، جالبا احترام زملائه له.
كانت وهي تكتب بالفرنسية تحس بأن هواجس من العربية تتملكها فتحاول أن تصوغها في إرهاصات، فتكتب سنة 1999 نصا تقول فيه: “هذه الأصوات التي تحاصرني على هامش “فرانكوفونيتي” (Ces voix qui m_assiègent: En marges de ma francophonie ) ثم أتبعته بنص آخر سنة 2003 عنوانه “اختفاء اللغة الفرنسية ـ في الجزائر المستقلة طبعا ـ” (La Disparition de la langue française)
عبرت عن شعورها في هذين النصين بالانفصام اللغوي الذي تعيشه بين لغة أصلها وذاتها ولغة أجنبية فرضها عليها وضع الاغتراب، في مرحلة تاريخية انتهت فيها اللغة الفرنسية في وطنها الأصلي.
الكاتبة أستاذة التاريخ، وترى أن اللغة الفرنسية التي تكتب بها ملطخة بالدم، تقول عندما استعرضت العلاقة بين الضباط الفرنسيين والإقطاعيين الجزائريين وجدت أن العنف هو المسلط على الجزائريين العاديين، وهو الشاهد عند كاتب التاريخ فتقول: “أنا وريثة هؤلاء القتلى، لقد حاولت من خلال هذا الكتاب أن أثبت أن هناك دماء في ميراث اللغة”
تتناول آسيا جبار في كتاباتها فظائع الاستعمار الفرنسي بالجزائر ففي روايتها “الحب والفروسية” (l’Amour et la fantassia). تعرض بدقة أفظع عمل إجرامي قام به جيش الاحتلال الفرنسي حيث قاموا بحشر خمسمائة قروي رجالا ونساء وأطفالا مع حيواناتهم في مغارة الظهرة سنة 1845 وأشعلوا النار في مدخليها فمات الجميع مختنقا بالدخان ويرويها الأمير دو لاموسكووا De la Moskowa أمام البرلمان الفرنسي فيقول: “إنه قتل عن سابق إصرار وترصد يسلط على عدو بلا دفاع وينبغي إدانة ذلك برعب من أجل شرف فرنسا“. ويروي الجنرال كاروبير: “في الصباح وصلنا مدخل المغارة، جمعنا قشا وفي المساء أشعلنا النار ومات خنقا النساء والأطفال“. ويروي ماريشال المعسكر: “قمت بسد كل الفتحات بالمغارة بحيث حولتها إلى مقبرة واسعة فتدفن الأرض وإلى الأبد جثث هؤلاء المتعصبين، إن داخلها خمسمائة قاطع طريق [عين مرو 15/8/1845 ]”. ويكتب ج.ب.ل. بيرار سنة 1864: “لقد علمنا من ثلاثة أشخاص نجوا بأن البقر الذي كان مع الناس بالمغارة صار بسبب الاختناق متهيجا فرفس الكثير من الناس فقتلهم. لقد بقيت هذه المقبرة الضخمة مغلقة وداخلها الرجال والنساء والأطفال والمواشي“. تروي الكاتبة آسيا جبار في روايتها هذه القصة وتعلق بأن اللغة الفرنسية التي تكتب بها معفرة بالدم.
تقول آسيا جبار: “تعلمت الفرنسية كلغة كتابة وليس سوى ذلك (أي إنها لم تكن تحبها).. تعلمتها كي أسرق شيئا من عدو الأمس…” كتبتْ في مجلة اليوم السابع فقالت: “لأننا لم نكن قادرين على الكتابة مباشرة بالعربية، فقد بذلنا جهدنا لكي يصار إلى ترجمة أعمالنا سريعا إلى هذه اللغة التي نحبها. وأسفر الأمر عن ظاهرة غريبة. أن أدبنا، إن تحول إلى العربية، لن يحقق النجاح المرتجى. والذنب هو ذنب عملية العبور هذه أكثر مما هو ذنب نوعية الترجمة. فالجمهور لا يحب هذا النوع من التأقلم. الجمهور الذي يقرأ أبدى الكثير من الحذر، لأنه يفضل أن يكشف الكتاب المغاربة عن نصوصهم مباشرة وبلغتهم الأصلية“.
كرست آسيا جبار قسما من كتاباتها لخدمة المرأة الجزائرية، وأنتجت أفلاما عن ذلك، أشهر فيلم عنوانه “نوبة نساء جبل شنوة” عن النساء الأمازيغيات اللاتي تنتمي آسيا إليهن. وقد حصل هذا الفيلم على جائزة النقد العالمي في مهرجان فينيسيا سنة 1979. لقد ترجمت روايات آسيا جبار إلى عشرات اللغات.
ونختم هذا المقال بما قاله الناقد والمترجم المصري محمود قاسم فيها وهو ينعيها: “إن آسيا جبار قامة أدبية كبيرة، رحلت من دون أن تترجم أي من رواياتها إلى اللغة العربية، وهي الكاتبة التي ظلت ثقافتها عربية طوال عمرها ولم يكن لجوؤها إلى اللغة الفرنسية سوى سبب قهري ليس لها دخل فيه“.