-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أبعاد تأويل النصوص الدينية في تاريخنا المعاصر

خير الدين هني
  • 629
  • 0
أبعاد تأويل النصوص الدينية في تاريخنا المعاصر

أقصد بالتأويل تأويل نصوص القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، ومساحة هذا الموضوع لا تسمع بتعريف التأويل لغة واصطلاحا، كما كان منتهجا -أكاديميا- في الدراسات القديمة، كما أنها لا تسمح بالخوض في مخرجات التأويل التي اعتمدتها المدارس السياسية، في عهود الخلافة الراشدة وما تلاها من فتن كبرى إذ اتخذت كل مدرسة من التأويل مصدرا شرعيا لتبرير أعمالها السياسية واتجاهاتها المذهبية، إنما أقصد هنا اختلاف المدارس السياسية المعاصرة في التأويل، والاستناد إلى مخرجاته في خدمة المشاريع السياسية التي هي غاية كل فعل حركي، لبلوغ الأهداف  المنشودة.

إذ أخذت الفرق المختلفة من المسلمين، تتجه به نحو نزوع إيديولوجي ينسجم مع مشاريعهم الثقافية أو السياسية أو المذهبية، وكل فرقة اختارت من النصوص ما يدلُّ ظاهرُها على مخرجات تنسجم مع ميولهم العقدية، وإن كانت النصوص من المتشابه، أوَّلوها بما يتفق مع أهدافهم التي يرومونها، ولاسيما وأن النصوص –في مجملها- حمّالة أوجُه، بسبب مرونتها وسهولة ليِّ أعناقها، بما تشتهيه النفوس.

واختلاف المسلمين المعاصرين في التأويل، وتباعدهم عن بعضهم البعض في التخريجات الفقهية، مردُّه إما لما استقر في عقولهم من تشبع  بثقافات الفكر التراثي، وإما بتأثرهم الشديد بمصادر الثقافة الغربية، التي استوحت أفكارها من فلسفات الحداثة السياسية، وهي الفلسفة التي اعتبروها ثورية في تحطيم القيود، التي كانت تربط الإنسان الغربي بالدين والأخلاق التقليدية، ومن هنا أخذ التأويل أبعادا متباينة في معانيه وأهدافه، فالإحيائيون يتمسكون بحرْفية النصوص في الفقه الأخلاقي والسياسي، والسياسيون المتأثرون بالفلسفة اللبرالية، يؤوِّلون النصوص بما يلائم  العصر وتعقيداته الفكرية والثقافية.

الفلسفات المادية والتأويل:

يتميز تاريخُنا المعاصر، ببروز مشكلات فكرية وسياسية، تختلف اختلافا كبيرا عما كانت عليه في تاريخ العصور القديمة، إذ إن البيئة الفكرية والثقافية هي المنشأ الذي تظهر فيه التيارات الإيديولوجية، وما ينتج عن ذلك من مذاهب فلسفية وعقدية، يشحنها تطور نظريات الفكر السياسي الذي تنشئه الصراعات المحتدمة بين المتنازعين، ويشتد التنازع على ذلك بين المتنافسين، فيلتمس كل فريق مخرجات تأويلية يستند إليها في تبرير أعماله ومواقفه.

وينبثق عن التنافس السياسي، مدارس سياسية وفكرية تتنازع الأحقية في شرعية الحكم وطرق الوصول إليه، بقراءات تأويلية، ويلعب التطور العلمي والتكنولوجي دورا بارزا في تغيير الاتجاهات الفكرية والعقائدية  بتأويل جديد، وهي الاتجاهات التي تغير حركة التاريخ، وأساليب حياة البشر وطرق تفكيرهم، وأنماط عيشهم، ونظمهم في العمران والاجتماع والاتصال، والتعايش والعلاقات.

وما جعل إنسان اليوم يتغير بسرعة كبيرة، أنه تأثر بالتطور العلمي السريع، الذي كشف ظواهر الطبيعة والقوانين التي تحكم نظمها، ما جعله  يتحرر من التفاسير الأسطورية التي كان إنسان القرون القديمة يفسر بها ظواهر الطبيعة تفسيرا خرافيا، والكثير من هذه الظواهر كانوا ينسبون حقائق تفسيرها إلى الدين ويعتبرونها من الحقائق المقدَّسة التي لا يجوز مخالفتُها بأي تجربة أو برهان عقلي.

ومن هنا بدأ الإنسان المعاصر، يعلن ثورته على الدين والأخلاق والتقاليد الموروثة، وقد دخل في وهله أنه كشف الحقيقة الغيبية، التي كان الناس في القديم يفسرونها تفسيرا ميتافيزيقيا، وإن كانت تلك التفاسير الأسطورية ليست من الدين ولا من تعاليمه وقواعده الأصيلة، وإنما هي نتاج تراكم من الأخيلة التي رافقت الإنسان أزمانا طويلة، بسبب عجزه عن تفسير تلك الظواهر بأدلة محسوسة يرى أثرها بالمعاينة.

ولما ترقى العقل الغربي بعد الثورات الدينية والصناعية والاكتشافات الجغرافية الكبرى، أخذ ينظم حركات التمرُّد على الدين في أوربا المسيحية كلها، وقد نتج عن ذلك التمرد إعلان  ثورات سياسية على الكنيسة والملكيات المطلقة والإقطاع السائد في القارة الناهضة، وكذلك على الاستغلال البشع للموارد وجهد الإنسان الضعيف وطاقته المهدورة من الإقطاعيين وكبار المرابين.

وما إن سيطر الثوريون -في الغرب- على مقاليد الحكم، ومراكز القوة وصنع القرار، ومصادر القوة حتى انفصلوا عن الدين وفصلوا الدولة عنه، وقطعوا كل صلة تربط الدين بالسياسة والحكم والتشريع والأخلاق والحياة العامة، وقنَّنوا ذلك في دساتير ثابتة وقوانين ملزمة وأوامر تنفيذية، بعد أن حوَّلوا هذا الانفصال إلى عقيدة سياسية، ضمن فلسفة  قيمية ذات أبعاد مادية، مجردة من أي اعتبار روحي له علاقة بعالم الروح والغيب، لكون الإنسان – حسب نظرية التطور- مكوَّنا من مادة خالصة كغيره من الكائنات الحية، انحدرت عبر الزمن الطويل من أسلاف مشتركين، والمادة حسب هذا التصور كائنٌ متطور بذاته من طريق النشوء والارتقاء والانتخاب الطبيعي، وقد أسس هذه النظرية ودافع عنها في كتابه الشهير (أصل الأنواع) العالمُ الإنجليزي تشارلز داروين (1809م-1882م)، وجعلها تنتشر في المجتمع العلمي بسرعة كبيرة بعدما رفضوا قبولها في بداية الأمر.

وحسب هذه النظرية، فإن الصراع من أجل البقاء، له نفس التأثير في الاختيار الصناعي المساهم في التكاثر الانتقائي للكائنات الحية، والمجتمع العلمي (علماء الأحياء) اليوم أصبحوا يجمعون إجماعا واسعا على أن الاستمرار الطبيعي عبر الزمن الطويل، هو المحرك الفعلي لتطور الأحياء. ومن هنا أخذت الفكرة المادية الخالصة المتطورة ذاتيا تسيطر على أفكارهم ومشاعرهم، وهي الفكرة التي تجرد الإنسان من عالم الروح، وتجعله كائنا مركبا تركيبا ماديا، مثل بقية الكائنات، وغاية هذه الكائنات في مجموعها السعي نحو بلوغ حياة منعّمة بشهوة المتعة واللذة بكل ما تشتهيه أنفسهم، من غير قيود تقيد حركاتهم وملذاتهم ورغباتهم وشهواتهم.

والإنسان كغيره من الكائنات الحية، يتعين عليه الاستمرار في البحث عن كل ما يلبي احتياجات جسمه بالطعام والشراب وإشباع غرائزه بما يحقق له المتعة واللذة والنشوة، ولذلك كان الكلام عن الروح والدين والغيب ضربا من اللغو والعبث والتخريف، حيث أنها حقائق أسطورية اخترعها الإنسان القديم بخياله في مراحل ضعفه الأولى، لأن الإنسان القديم –لضعفه وقلة حيلته في استكشاف قوانين الطبيعة- وعدم قدرته على السيطرة على مواردها وقهر قساوة ظواهرها المدمِّرة لحياته ومنجزاته، فحين أعجزه ذلك اخترع عالما روحانيا غيبيا مثاليا خالدا، يحقق له متعته الأبدية، يسعد فيه ويتلذذ بكل نعيم حُرم منه في الحياة الدنيا.

لهذا السبب تمرَّد الإنسان الغربي على كل قيمة ذات صلة بالدين والأخلاق، وحطم كل القيود التي كانت تربطه بهما، وألزم نفسه بمبدأ الانفصال عن عالم الروح والغيب والخلق الإلهي للكون والإنسان والحياة، وجعلوا الانفصال عقيدة في أخلاق السياسة والحياة، وأوجبوها على أنفسهم وشعوبهم وأوطانهم، ثم ألزموا أنفسَهم بوجوب تصديرها إلى بقية بلدان العالم، من طريق الضغط بالإكراه والترغيب والترهيب، وعبر سياسة الارتباط بعلاقات الولاء مع نخبة الحكم في العالم العربي والإسلامي بخاصة، لأن المسلمين قبل تعرُّض بلدانهم للغزو الاستعماري، كانوا يلتزمون في حياتهم السياسية والتشريعية بأحكام الشريعة روحا ونصا، لأنهم يعتبرون الإسلام دين حياة في العقيدة والعبادة والمعاملة والعلاقات البينية والكونية، لذلك اعتبروا الإسلام مصدرا أساسيا للتشريع في جميع مناحي الحياة.

وبما أن نخبة الحكم في العالم الإسلامي، تؤمن بأن الإسلام عقيدةٌ دينية صحيحة، ومخالفٌ للعقائد المسيحية وغير المسيحية في العالم، جعلوا في دساتيرهم الإسلام ديانة رسمية للدولة، وسمحوا بممارسة الشعائر الدينية في أماكن العبادة تحت إشراف موظفين رسميين يتقاضون رواتب شهرية من الخزينة العمومية، وسمحوا بإدماج بعض نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشرفية، ضمن المناهج الدراسية لتلقن للتلاميذ والطلبة، واتخذوا لها عوامل تنقيط موجبة في الاختبارات والامتحانات الرسمية، وجعلوا فريضة الحج تحت إشراف الدولة تمويلا وتنظيما، وأفردوا للشؤون الدينية وزارة خاصة تتمتع بالحرية في التسيير والاستقلال المالي، كما سمحوا بارتداء الملابس ذات الرموز الدينية في الإدارة والأماكن العامة.

إلا أنهم جعلوا الانفصال بين الدين والسياسة ونظام الحكم والتشريع في غير الأحوال الشخصية، أمرا ملزما وقنَّنوا ذلك بمواد رسمية في الدساتير والقوانين والتشريعات، إذ جعلوا الشعب هو المصدر الأول لتولي السلطة والعزل والتشريع والرقابة والمحاسبة، جريا على ما هو معمولٌ به في بقية دول العالم، عند البلدان غير الإسلامية.

وبقيت الدول الإسلامية مضطرة إلى إتِّباع سياسة الفصل بين الدين والسياسة، لأن محور الدول المهيمنة على هيئات الأمم المتحدة، التي وضعوا نظام تأسيسها وقوانينها بأنفسهم ومن أجل مصالح بلدانهم، أصبحت تمارس على الدول الإسلامية الرقابة المتشددة، وتمنعهم من ممارسة أي سياسة إحيائية، تدعو إلى العمل بالثقافة التراثية التي تتخذ من الإسلام مصدرا للتشريع والحكم.

لأن الغرب المهيمن على السياسة الدولية، ومنذ أن أسقط الخلافة العثمانية بمساعدة العملاء والخونة من المسلمين، يعمل جاهدا على تفتيت العالم الإسلامي إلى كيانات سياسية صغيرة، تتصارع فيما بينها على الحكم والنفوذ والحدود والمياه والسيطرة على بعضهم بعض، مثلما كان عليه حال ملوك الطوائف في الأندلس قبل السقوط، لأن الغرب يعلم – يقينا- بأنَّ المسلمين إذا اجتمعت كلمتُهم السياسية واللغوية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، فإنهم سيكتسحون العالم مثلما اكتسحوه في العصر النبوي وما تلاه من عصور الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والسلاجقة والعثمانيين، وأنهم سيُخضِعون العالم ويجعلونه تحت رحمتهم الدينية والسياسية والثقافية، لأن الإسلام دينٌ يدعو إلى التحرر من أي هيمنة سياسية ظالمة، أو وثنية مؤلّهة أو عبودية  استغلالية، وهو لذلك يدعو أتباعه إلى نشر تعاليمه في الأرض، بوسائل الجهاد المشروعة التي شرَّعها في أحكامه المقاصدية، ولهذا أوَّلوا النصوص لتستجيب إلى هذا التغير الكبير في السياسة الدولية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!