أفٍّ لكم!
هي زفرة حارّة، صعّدها منذ قرون، أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السّلام، صعّدها في وجوه أتباع الشيطان، من مهزوزي الفكر، وعبدة الأصنام والأوثان.وهي زفرة أخرى حارّة، أصعّدها اليوم مقتديًا بكلّ الأنبياء، لأنفثها في وجوه كلّ من أشباه العلماء، وأشباه المثقّفين، وأشباه الإعلاميين، وأشباه المجاهدين.
أشباه العلماء لأنّهم يحشرون أنفسهم ظلمًا في زمرة العلماء، ولا زاد لهم في العلم، فلم يأخذوا من العلماء لا علمًا ولا خُلقًا، إنّهم يفسدون كما يقول الإمام ابن تيمية _رحمه الله– الأناسي والأديان، كما يُفسِد أنصاف الأطباء، العقول والأبدان.
وأنصاف المثقفين لأنّهم يتشّبهون بالمثقفين في الشكل، ولكنّهم فاقدون للمضمون، فلم يفلحوا في أخذ منهج الثقافة أو على الأقل بعض اللّطافة فتراهم يسلكون سلوك الزرافة، فيصيروا في النّاس مدعاة سخرية وسخافة.
ويسألونك عن أشباه الإعلاميين، فتراهم كالفراشة، يطوفون حول النور ليحترقوا، فهم يتصيّدون _باسم قصب السّبق الموهوم– العثرات والعورات، ويا ليتهم يأتون بالكلمات أو البيّنات.
أمّا أشباه المجاهدين، وما أكثرهم، فهم أولئك الذين لم يكتووا بنار الثورة، ولم يهتدوا بنور الجهاد، فلم يعرفوا من الجهاد إلاّ مبناه.
وفي الهيجاء ما جرّبت نفسي ولكنّي في “الغنيمة” كالغزال
حتّى إذا أخذت الجزائر زخرفها، وازيّنت، ولاح الفجر الصّادق من الفجر الكاذب، وتبيّن من بكى ممن تباكى، يومها تسّلل إليها أشباه المجاهدين، لا ليجدوا مكانًا لهم في غفلة من أهلها فحسب، وإنّما لينكروا الحقّ على المجاهدين الحقيقيين، ممثلين بمقولة الانتهازيين: “أحسن سياسات الدّفاع الهجوم“.
أفٍّ، لهؤلاء جميعًا، وحسبنا الله ونعمَ الوكيل في ما يصدر عن كل صنف منهم نحونا، فتلك ضريبة الثبات، وثمن النّجاح، وتكلفة الجهاد الصّادق.
لقد كنت أظنّ، وبعض الظنّ ليس بإثم _أنّني شخصيًا– لن يكون لي أعداء بما حباني الله، فضلاً منه ونعمة، بمزيّة العيش الكريم، ونعمة التفكير السّليم، وفضيلة الخُلق القويم، فأنا عفيف اليد واللسان، ونظيف الذّمة والجنان، ودمث العلاقة والعرفان.. أحاول أن لا أمّد عيني إلى ما عند الغير، وأطلب لي وللنّاس كلّ الخير، وعملت من أجل وطني، حثيث السّير، أعلو عن الخيانة والعمالة، علوّ النّسر والطير.
غير أنّي تذكرت حكمة شاعر المعلّقات:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يُهدَّم، ومن لا يَظلِم الناسَ يُظلم
عدت إلى صوابي _إذن– فأيقنت أنّ الحسد مرضٌ نفسي، ضامر في صغار النّفوس، الذين لم يتمكنوا من النجاح، فهم يحسدون النّاس على ما آتاهم الله من فضله.
وأدركت أنّ المصالح الضيّقة تُعمي النّاس وتصمّهم عن رؤية الحقائق، وسماع الحِكم، خصوصًا عندما يكونون من أنصاف العلماء أو أنصاف المثقفين أو أشباه الإعلاميين أو أشباه المجاهدين.
غير أنّي آمنت _قبل هذا وبعده– أنّ التاريخ صحائف من الرّجال، ومن الجبال، ومن الأعمال. مقتنعًا بعدل الله الذي ينصر الصادقين المخلصين، ويتولى الظالمين الكاذبين المضللين.
إنّ وطننا ملحمة ستظل مستعرة، بين أهل الحقّ وأهل الباطل، وبين الأصلاء، والعملاء، ولكنّها ستنتهي لصالح الحقّ، ولصالح الأصالة، بعد أن يكشف الزمن عن الثابتين على الثوابت منذ بداية الفجر والزاحفين على المكاسب عند نصب موائد النصر.
فلا يعرف الشوق إلاّ من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
إنّ الذين اصطلوا بنار الجهاد، وبذلوا النّفس والنّفيس في سبيل تحويل نارها إلى نور حقيقي، هم أوّل من يدرِكون أنّ في عهد الثورة لم يكن هناك إلا اثنان لا ثالث لهما:
الله في السّماء، والثورة في الأرض، فكل من يعبث في الأرض أو يعيث فسادًا، تتولاه الثورة بعيونها الكبيرة، فتُطهّر الأرض منه، وكما يقول أبو القاسم الشابي:
ومن لم يعانقه شوق الحياة تبخر في جوّها واندثر
هكذا _إذن– كانت يومياتنا في الثورة، تُحدِّث أخبارها بصدق ثوارها، ووقائع أوّارها.
ودع عنك حديث الإفك، وقَصَصَ اللّغو، فهي تتهافت كلّها على صخرة الواقع التاريخي الصّلب.
وأتذكر هنا الأسطورة الشعبيّة التي مفادها أنّ أحد الأبناء، قال _ذات يوم– لأبيه: “تعال يا أبت ندّعي بأنّنا شرفاء!” فأجابه الأب بحكمة رشيدة: “حتّى يموت الذين يعرفوننا يا بني“.
إنّني مازلت مؤمنًا بأنّ الباطل، بالرّغم من بطلانه، قد يجد من يصدقونه على قلّتهم، ولو إلى حين، ولكنّ الحقّ بقوّة أدلّته وصدق محجّته سوف يلتف حوله كلّ الصادقين، وإنّ البقاء سيكون للحق مهما جار الباطل عليه، فتلك سنّة الله في الأنبياء، والعلماء والمصلحين الصلحاء.
وإنّ مما يزيدنا إيمانًا وتصديقًا بهذه السنن هو هذا النّجاح الذي نحققه كلّ يوم بفضل الله وتوفيقه، سواء على الصعيد الشخصي باِلتفافِ النّاس حولنا أو على الصعيد الرّسالي بإقبال النّاس على العاملين المخلصين في جمعية العلماء داخليًا وخارجيًا، ينصرون دعوتها، ويبلّغون كلمتها.
وإنّ أقوى سلاحٍ نتحصّن به ضدّ الحاقدين والمغرِضين، أن ندعو في سجودنا على كلّ من سوّلت له نفسه النّيل من قيم النّبلاءِ والشّرفاءِ، وإنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، “وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ” وأفٍّ لهم في البدءِ والخِتام.