الرأي

أقوى لغة في العالم بلا دستور.. ونحن مازلنا نطرح السؤال الخطأ!

محمد سليم قلالة
  • 5114
  • 17
ح.م

أكبر دولة في العالم، والتي أصبحت لغتها لغة التعامل الدولي بامتياز، لم تُفكِّر أبدا في ترسيم لغتها دستوريا. لا توجد مادة في الدستور الفيدرالي الأمريكي تنص على أن الإنجليزية هي اللغة الوطنية أو الرسمية، أو أن الدولة تعمل على تعميم استعمالها. ولم يحدث في تاريخ هذه القوة الكبرى أن تم الاتفاق على ذلك دستوريا، لتُصبِح هذه اللغة أول لغة في العالم على الأقل في مجال الاستخدام العلمي، بل أن الأمريكيين رفضوا اقتراح “جون أدامس” منذ سنة 1780 لترسيمها في دستورهم الفدرالي. وتركوا الأمر  للفعَّالية تفرض نفسها.

وهكذا برغم وجود 381 لغة في هذا البلد غداة تأسيس الفدرالية من بينها 169 لغة أصلية وهناك من يتحدث عن 500 لغة محلية كان يتكلمها الهنود الحمر، تمكنت  الانجليزية من فرض ذاتها، ليس من خلال الترسيم أو عدم الترسيم في الدستور، إنما من خلال الفاعلية والقدرة على الانتاج المعرفي والعلم. وتحدَّت اللغات الأخرى، خاصة القوية منها في تلك الفترة، كالإسبانية والبرتغالية والفرنسية، وانتصرت في معركتها بلا دستور…

دول أخرى لم يضيرها أن وَضعت عدة لغات رسمية في دستورها. حَدَّدت المادة الخامسة من  دستور 2009 لدولة  بوليفيا الاجتماعية الموحدة المتعددة القوميات، 37 لغة رسمية إلى جانب الإسبانية. ونَصَّ دستور افريقيا الجنوبية المعدل سنة 2012 في مادته السادسة من الفصل الأول أن “اللغات الرسمية للجمهورية هي: “سيبيدي، وسيسوثو، وسيتسوانا، وسيسواتي، وتشيفيندا، وإكسيتسونجا، وأفريكاناس، والإنجليزية، ونديبيلي، وإكسهوزا، وإيزيزولو”. ووَضَعت دول أخرى في دساتيرها لغة رسمية واحدة، وكانت لغة حية مثل البنين وبوركينا فاسو والكاميرون والكونغو وكوت ديفوار مع الإشارة إلى عمل الدولة على ترقية لغاتها الوطنية… وصِنفٌ ثالث من الدول لديه ثلاث لغات أو أربع لغات رسمية أو أقل أكثر. ولم تكن أبدا هذه الوضعية الدستورية لهذه اللغات هي المُتحكِّمة في مصيرها، بل الواقع الاجتماعي والسياسي كان هو العامل الحاسم. ولنا في تجارب العالم عبرة.

ولهذا أرى اليوم أنه علينا أن نطرح السؤال الصحيح بالنسبة لمسألة اللغة في بلادنا، وألا نوجِّه النقاش توجيها  أيديولوجيا خاطئا بشأن سياسة اللغات كما يحدث الآن، لِندْخُلَ متاهات لا نهاية لها في هذا الموضوع بلغت أحيانا  لدى البعض، حد الطعن في تاريخنا المشترك ونَسبِنا الطاهر وانتمائنا الحضاري الذي لاشك فيه، بل نَزلت بعض النقاشات إلى حد السوقية في التعبير والتنابز بالألقاب مِمَّا ليس من شيمنا ولا أخلاقنا ولا تلك الوطنية التي وحّدتنا جميعا…

لذلك علينا بدل أن نسأل:  في أي مادة من الدستور وفي أي فصل نضع هذه اللغة أو تلك، وهل تكون رسمية أو غير رسمية، وطنية أو غير وطنية، علينا أن نسأل كيف نصل إلى نقلها من حالة الركون إلى الفاعلية؟ كيف نُنتج بها معرفيا وعلميا وأدبيا؟ ما الذي علينا تقديمه لها ميدانيا؟ وكيف نُخرجها من جور اللغة الأجنبية إلى عدل الثقافة الوطنية، ومن ضِيق الدستور إلى سعة الحياة العملية…

نِقاشُنا ينبغي أن يَنصَبَّ حول تقييم سياسة الدولة والمجتمع والنخبة في مجال اللغة الوطنية والرسمية، وقبل ذلك حول تقييم أنفسنا وما الذي أضفناه للغتنا كأفراد؟ كم مِنّا تكلم بها فصاحة أمام أبنائه؟ كم مِنّا كَتَب بها صكًّا في البريد؟ كم مِنّا سَجّل بها قائمة الأسماء في هاتفه النقّال؟؟ لِنَكُف عن المزايدة الدستورية والسياسية والأيديولوجية ولِنكن عمليين، حتى لا أقول أمريكيين في مجال فعالية اللغة…

مقالات ذات صلة