-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أكتوبر 1988.. هل انتهت دروسه؟

أحمد بن يغزر
  • 409
  • 0
أكتوبر 1988.. هل انتهت دروسه؟
ح.م

رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على حوادث أكتوبر 1988، إلا أنها مازالت تمثل لأجيال كثيرة من الجزائريين محطة مفصلية في ذاكرتهم الجماعية، والبوابة التي ولجت منها الجزائر إلى مرحلة مختلفة عن سابقتها في تاريخها المعاصر. فإذا كانت ثورة نوفمبر 1954 تمثل انعطافة كبيرة في مسيرة الشعب الجزائري نحو التحرر والانعتاق، فإن انتفاضة أكتوبر 1988 ظلت إلى غاية 22 فيفري 2019 الحدث الأبرز في تاريخ الجزائر المستقلة. كما أن أسئلة كثيرة متعلقة بها لم تلق الجواب الحاسم والمقنع إلى اليوم.

هل كانت هذه الحوادث حركة شعبية عفوية دفعت إليها الظروف الاقتصادية والإكراهات الاجتماعية آنذاك؟ أم إنها كانت تعبيرا علنيا عن صراعات خفية بين أجنحة في السلطة، نقلتها إلى الشارع بعد أن عجزت عن حسمها؟ وهل كان للعوامل الخارجية دورٌ في ما حدث، خصوصا أن الحوادث تزامنت مع الانتفاضات الشعبية ضد الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية؟ هل كان تحريك هذه الحوادث محاولة لإفشال مؤتمر إعلان قيام الدولة الفلسطينية الذي تم في 15 نوفمبر 1988؟

هذه الأسئلة وغيرها ستبقى مفتوحة أمام الباحثين والمؤرخين، وسيكون استثمار الشهادات والمذكرات التي أنتجها الفاعلون في تلك المرحلة مهمّا، وقد يفتح المجال لقراءة موضوعية وعميقة، ومن زاويا متعددة، وهذا شغل المؤرخين.

وبغض النظر عن الإجابات التي يمكن أن ينتهي إليها الفحص لحيثيات هذا الحدث، فإنَّه لا يمكن إهمال تأثيره الواضح والعميق في التطور السياسي للجزائر، سواء في بنية ونظام الحكم، أم في خياراته، وكذلك تأثيره في مجمل التوجُّهات السياسية والإيديولوجية التي كانت تموج بها الساحة الجزائرية، ولو بشكل غير معلن قبل 1988.

لقد اكتسبت هذه الحوادث أهمِّيتها من التأثير الذي أحدثه أو الذي أريد لها أن تحدثه في المنظومة السياسية القائمة، وكان مؤشر التأسيس الدستوري في فيفري 1989 هو إشارة البداية للمسار الجديد، وتمثل أول أبواب هذا المسار في فتح المجال أمام التعدُّدية الحزبية، وإمكانية التداول على السلطة من خلال الانتخابات الحرة النزيهة، وشكل ذلك نسفا لمنطق الحزب الواحد، وما ارتبط به من شرعية تاريخية حكمت الجزائر منذ استقلالها سنة 1962.

لقد كرَّس المنظور السياسي الذي قاد الجزائر بعد الاستقلال فكرة سلبية عن التعددية وعن الأحزاب، موظفا في ذلك مقولة انطباعية غير دقيقة عن المرحلة التاريخية التي سبقت الثورة التحررية، وخصوصا الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية ومجازر 8 ماي 1945، تقوم هذه المقولة على فرضية أن الثورة كانت قطيعة مع “النضال الحزبي العقيم”، وأنَّها، أي الثورة، ما كانت لتحقق أهدافها لو لم تجسد هذه القطيعة مع كل الانتماءات والتنظيمات الحزبية والسياسية السابقة لاندلاعها.

وفي الحقيقة، إن هذه المقولة يمتزج فيها بعض الصواب الذي يتمثل في أن الوحدة والالتفاف الجماعي حول الهدف المشترَك أي الاستقلال، كان من أهم مقومات نجاح الثورة، مع بعض التسطيح المتمثل في محاولة تغييب أهمية تراكم الوعي الذي أنتجه النشاط الحزبي والسياسي في المرحلة السابقة للثورة، لكن يحضر فيها كثير من الاستغلال، وهذا هو الأسوأ لتكريس نمط من الأحادية والانغلاق في إدارة شؤون الدولة المستقلة، الذي ليس حوله اختلاف ولا جدال في كون منطق إدارة ثورة مسلحة ضد احتلال أجنبي، يختلف عن منطق إدارة دولة، وأن ما يصلح في الأولى قد يكون مجانبا للصواب تماما في الثانية.

لقد كان الهدف من وراء ترويج هذه السردية وتثبيتها في الوعي العام عبر مختلف المنظومات الإعلامية والتربوية والسياسية، هو شيْطنة كل عمل يحاول أن يكون مستقلا عن السلطة أو معارضا لها، أو حتى متحفظا وناقدا لخياراتها، باعتباره حسب هذه السردية نقيضا للوحدة وللمصلحة الوطنية التي تمثلها حصريا السلطة بخطابها ورموزها وقراراتها، وبالتالي، سببا في الفتن والانقسامات.

هذه الخلفية هي التي تفسر مصير الكثير من الشخصيات التي رفعت صوتها بالمعارضة، وكان من ضمنها حتى شخصيات ثورية ودينية ذات وزن ورمزية تاريخية، من أمثال محمد بوضياف، وكريم بلقاسم، والعقيد شعباني، والبشير الإبراهيمي، وآيت أحمد… وغيرهم. فالمعارضة أو محاولة النضال من خارج المنظومة كانت تعدُّ في نظر السلطة جريمة تستحق العقاب، وفي لاوعي جزء عريض من المجتمع رديفا للتفرقة والفتنة والانقسام.

بهذا المنطق سُيِّرت الجزائر المستقلة لما يزيد عن ربع قرن، لكن فاصلة أكتوبر 88 وضعت حدا لهذا المنطق على الأقل على المستوى الدستوري والقانوني وعلى مستوى الخطاب السياسي، وفتحت أمام الجزائريين أفقا جديدا، بنوا عليه الكثير من التطلُّعات والطموحات، وكانت الاندفاعة نحو أجواء التعدُّدية والمنافسة السياسية في الأشهر الأولى قوية وحماسية، حتى إن وزارة الداخلية يومئذ استقبلت عشرات الملفات لتشكيل أحزاب أو “جمعيات ذات طابع سياسي”، كما كان يسميها دستور 1989.

ويتذكر الجزائريون كيف أن سقف الحرية السياسية والفكرية في تلك المرحلة كان في أعلى ارتفاعاته، حتى إنه أصبح نموذجا تتطلع إليه الشعوبُ المجاورة، وبمقاييس تلك الفترة، فإن ذلك كان سبقا تاريخيا على مستوى العالم العربي، وعلى مستوى الكثير من دول العالم الثالث.

لم يكتب للتجربة أن تبلغ درجة النضج الكافي الذي كان سيؤهلها للاستمرار في الزمن، والتوفيق في الانتقال بالجزائر إلى وضع أفضل يكافئ ما تمتلكه من مقومات ومقدرات، ويعود ذلك إلى سوء تقدير أطراف كثيرة لحساسية المرحلة، والرهانات التي كانت تحيط بها، كما يعود إلى أنانيات كانت تتحكم في السلوك السياسي سواء للسلطة، أم للمعارضة، فالسلطة لم تستطع نخبُها التكيف مع استحقاقات المرحلة الجديدة، بل كانت تعمل بكل الطرق والأساليب لتلتفَّ على ما تفرضه هذه الاستحقاقات، والمعارضة لم تتعامل مع المرحلة برؤية استراتيجية موزونة، بل كانت مكوِّناتها الأساسية تتصرَّف كما لو أنها بصدد غنيمة تسعى لتمتلك مفاتيحها.

كانت هذه المسلكية غير الحكيمة في التعامل مع الديناميكية التي أفرزتها انتفاضة أكتوبر 88 سببا رئيسا في اختزال عمرها، بل ودفعها باتجاه أزمة دموية كبيرة استغرقت عشرية كاملة، دفع الجزائريون أثمانها الباهظة من أرواحهم واستقرارهم ومقدراتهم، ولا تزال انعكاساتها تلقي بظِلالها على وعي ولا وعي جيل كامل من الجزائريين.

اليوم، ونحن على بعد أكثر من ثلاثين سنة من تلك الانعراجة التاريخية، نحتاج إلى استحضار حيثياتها من جديد، وتحيين قراءة دروسها في ضوء الواقع الجديد الذي فرضه حَراك الجزائريين منذ 22 فيفري 2019.

أكثر من هم في حاجة إلى الوقوف عند هذه الدروس في اعتقادي هم كل أولئك الذين يتطلعون إلى أداء أدوار في النشاط العام في المرحلة التي تعيشها الجزائر منذ 22 فيفري، ينبغي ألا نستهين إطلاقا بالرسائل الواضحة والعميقة التي بثَّها الجزائريون من خلال حراكهم الباهر، لأن النفق الذي دخلته الجزائر في تسعينيات القرن الماضي كان من بين أسبابه التغافل عن رسائل أكتوبر 88.

قد يغفر التاريخ ويعطي فرصة ثانية لمن لم تمتحنه أحداثه، لكنه لا يعفي أبدا من يعيد نفس الحماقات ثم ينتظر نتائج أخرى من أن يدفع التكاليف أضعافا، وهي قاعدة لا يُعذر أحدٌ بجهلها، ولا يسلم من آثارها القاسية حتما من يتجاهلها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!