الرأي

ألمانيا هتلر وألمانيا ميركل.. ما الذي تغيَّر؟

محمد بوالروايح
  • 2154
  • 7
أرشيف
أنجيلا ميركل

ظهرت ألمانيا في عهد القائد النازي أدولف هتلر في صورة الدولة المتفرِّدة والمتمردة على أوروبا وعلى العالم، صورة يرسم هتلر تفاصيلها وتقاسيمها في كتابه “كفاحي”، إذ يجعل العرق الآري الجرماني فوق كل عرق إنساني ويراه الأجدر- من دون سائر البشر- بالسيادة والقيادة والريادة، صورة عنصرية تقترب كثيرا من الصورة التلمودية التي تجعل العرق اليهودي فوق كل الأعراق.

تذهب بعضُ الدراسات التاريخية إلى أن الغاية من فكرة العرق الآري الجرماني التي تبنَّاها هتلر كانت “نسخ” عقيدة العرق اليهودي وهو ما تجسد في ما بعد في تعامل هتلر مع اليهود وقصة الأفران التي أقامها لهم التي قضى فيها سوادٌ كبير منهم في ما يُعرف عند المؤرخين بـ”الهولوكوست” أو “المحرقة اليهودية “التي جعلت اليهود الناجين يفرون بجلدهم وبأعداد كبيرة من ألمانيا ويتفرقون في مناطق مختلفة في أوروبا والعالم.

كان من البديهي أن تلقى سياسة الكراهية التي انتهجها هتلر معارضة شبه مطلقة من العالم ومن أوروبا على وجه الخصوص، وهو ما أدى بالقيادات الأوروبية آنذاك إلى أن تلم شملها وتجمع أمرها وتشكل تحالفا عسكريا لمواجهة ألمانيا ودول المحور التي وقفت إلى جانبها، وانتهت المواجهة بتلاشي دول المحور تدريجيا وانقسام ألمانيا عقب انتهاء العالمية الثانية إلى أربع مناطق محتلة بعد مؤتمر “يالطا” تتقاسمها أمريكا والاتحاد السوفييتي وفرنسا وإنجلترا، ثم أعقب ذلك اندلاع الحرب الباردة بين أمريكا وحلفائها من جهة وبين الاتحاد السوفييتي وحلفائه من جهة أخرى فيما يعرف بالمعسكر الغربي والمعسكر الشرقي الذي أدى إلى إقامة جدار برلين الذي قسم المدينة إلى برلين الشرقية وبرلين الغربية قبل أن يتهاوى هذا الجدار في مرحلة متأخرة في نوفمبر 1989 بالتزامن مع ثورات أوروبا الشرقية أو ما يعرف بخريف الدول التي أطاحت بالحكم الشيوعي في بولندا والمجر وألمانيا الشرقية وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا التي تمت بطريقة سلمية عدا حالة رومانيا التي انتهت فيها الثورة الشعبية بإعدام نيكولاي تشاوتشيسكو وزوجته في 25 ديسمبر 1989، ثم تبع ذلك سقوط الاتحاد السوفييتي وتفككه إلى دويلات مستقلة عام 1991 وكان ذلك إيذانا بانتهاء الحرب الباردة.

ما يهمني من كل هذا هو التأكيد على أن شخصية هتلر المتهورة قد ساهمت بشكل مباشر في عزلة ألمانيا أوروبيا وقاريا ودوليا بل إنها أدت إلى انهيار ألمانيا انهيارا كاملا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا قبل عودتها التدريجية البطيئة إلى الساحة الدولية بعد تحررها من الفكر النازي وقبولها بمبدإ التعايش والانفتاح الدولي. ويخالفنا في هذه النظرة بعض المحللين الذين يرون أن هتلر كان يمتلك شخصية كاريزماتية أوجدها الظرف الدولي في ذلك الوقت وساهمت في بناء ألمانيا القوية تحت قيادة الرايخ الألماني وهو ما تكذبه كثيرٌ من الحقائق والوثائق، والأكذوبة التي لا تزال تصدقها بقايا الحزب النازي التي تلجأ في بعض الأحيان في العصر الحاضر إلى محاولة استعراض قوتها والخروج في مسيرات للدعوة إلى استعادة ألمانيا النازية القوية على حد زعمها، وهي القوة الهلامية والوهمية التي تجد في كل مرة موقفا صارما من الدولة الألمانية الحديثة التي لا مكان فيها للعنصرية العرقية.

لقد استطاعت ألمانيا أن تزيح من ذاكرتها ودستورها وثقافتها الشعبية والاجتماعية الأفكار العنصرية التي كرسها أدولف هتلر، كما استطاعت أن تصطلح مع محيطها الأوروبي والدولي وأن تمحو آثار الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الذي أصابها في أثناء الحرب وكذا في أثناء بقائها مقسَّمة وموزعة بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي.

لقد تطورت ألمانيا وتغيرت بشكل لافت للنظر وتحولت إلى قوة أوروبية وإقليمية ودولية، واتبعت في سياستها الداخلية والخارجية مبدأ الحوار والتعاون لبناء المجتمع الألماني والأوروبي والدولي.

وقد ترسخت هذه سياسة الانفتاح الألمانية حديثا بوصول المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل إلى الحكم، إذ يذهب المحللون السياسيون والاقتصاديون والاجتماعيون إلى أن ميركل قد استطاعت أن تعزز مكانة ألمانيا أوروبيا ودوليا وأن تحولها إلى القوة الاقتصادية الأولى في أوروبا وجعلها مع فرنسا وبعض الدول المؤسِّسة للاتحاد الأوروبي صمام الأمان لهذا الاتحاد، وذلك بتدخلها في عمليات الإنقاذ المالي والاقتصادي كما فعلت مع اليونان وغيرها حفاظا على بقاء الاتحاد الأوروبي وتماسكه.

ليس من باب المجاملة أن تحقق المستشارة الألمانية ميركل كل هذه الشهرة والقدرة في القيادة التي أهَّلتها لحصد كثير من الأوسمة منها: وسام الاستحقاق الألماني ووسام “جواهر لال نهرو” للتفاهم الدولي، ووسام الاستحقاق الملكي النرويجي ووسام “عبد العزيز آل سعود” رحمه الله، ووسام الحرية الرئاسي الأمريكي. لقد كانت هذه الأوسمة مكافأة مستحقة لإنجيلا ميركل من الجهات المانحة نظير مواقفها وأعمالها في مجال التعاون والتفاهم الدولي.

لقد اكتسبت ميركل منهج التغيير السلمي في صورة التغيير الاقتصادي والسياسي من تجربتها النضالية حيث إنها تعدّ نتاج ثورات 1989 التي دخلت معها سنتها السياسية الأولى بعد سنوات قضتها في ميدان البحث العلمي والأكاديمي.

وهناك عاملٌ آخر أسهم في نضج وتميز شخصية ميركل وهو العامل الديني، حيث إنها تنتمي مذهبيا إلى الكنيسة الإنجيلية اللوثرية التي رفعت لواء الإصلاح والتغيير السلمي، وقد جسدت ميركل هذه التوجُّهات اللوثرية في قيادتها ألمانيا التي يتضمنها الميثاق السياسي لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تنتمي إليه الذي لم يمتنع ولم يمانع من الدخول في التحالفات السياسية من أجل ألمانيا وخاصة مع الحزب الديمقراطي الحر وهو الائتلاف الذي ساهم بقسط كبير في فوز ميركل بالعهدة الرابعة في منصب المستشار الألماني وهو أعلى منصب سياسي في ألمانيا.

ومما يجب ذكره أن سياسة الهجرة لدى ميركل تتّسم بالليونة والتشدد في الوقت نفسه؛ فقد كان لها موقفٌ إنساني ظاهر من المهاجرين إذ اعتبرتهم ضحايا الحروب المأساوية وسمحت باستقبالهم على الأراضي الألمانية وأمرت بتقديم كل التسهيلات وبعض الامتيازات لهم بما فيها تخصيص علاوات مالية، ولكنها في الطرف المقابل أبدت تشددا ظاهرا تجاه قبول بعض الفئات من المهاجرين حيث إن موقفها من الهجرة مشروط بضرورة الاندماج وتبني الثقافة والقيم الألمانية وهو ما يعتبره بعض اللاجئين مساسا بهويتهم وثقافتهم. ويندرج قرار ألمانيا ترحيل اللاجئين غير الشرعيين وغير القابلين للاندماج في المجتمع الألماني وهو غير المعلن تجسيدا لموقف ميركل وحزبها “الاتحاد الديمقراطي المسيحي” وشرائح من المجتمع الألماني من ملف الهجرة.

في الطرف المقابل أبدت ميركل تشددا ظاهرا تجاه قبول بعض الفئات من المهاجرين حيث إن موقفها من الهجرة مشروط بضرورة الاندماج وتبني الثقافة والقيم الألمانية وهو ما يعتبره بعض اللاجئين مساسا بهويتهم وثقافتهم.

مقالات ذات صلة