الرأي

أُمَّة الجهل

تعوّد الناس في الوطن العربي والعالم الإسلامي أن يسمّوا شهر رمضان المعظم ويصفوه بأنه شهر الرحمة، والتوبة، والمغفرة.. وكل ذلك صحيح، حيث وردت في ذلك أحاديث نبوية شريفة؛ ولكن هؤلاء الناس أنفسهم يغفلون ويسهون عن تسمية هذا الشهر الكريم بأول ما نزل فيه من القرآن الحكيم، وهو الأمر بالقراءة التي هي مفتاح العلم.

حيث نزل قوله سبحانه وتعالى: “إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم..” وقد اختصر هذه الحقيقة وكثّفها الشاعر أحمد شوقي في بيت شعري رائع هو:

ونودي “اقرأ” تعالى اللّه قائلها لم تتصل قبل من قيلت له بفم

لقد عجب بعض ذوي الألباب أن يكون أول ما نزل من القرآن الكريم هو الأمر بالقراءة، لأنهم كانوا يظنون – قياسا على الرسالات السابقة – أن يكون الأمر بالعبادة – بمعناها الضيق – هو أول ما يؤمر به رسول الله – عليه الصلاة والسلام-.

لقد كان طبيعيا أن يؤمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أول مرة بالصوم، وقد أنزل هذا القرآن في شهر الصوم، وكان طبيعيا أن يؤمر رسول الله – عليه الصلاة والسلام – أول مرة بالصلاة التي هي عماد الدين، وأول ما يسأل عنه المرء عندما يأتي ربه، وكان طبيعيا أن يكون أول ما يؤمر به – صلى الله عليه وسلم – هو الحج، وما بيته من البيت العتيق ببعيد.. ولكن الله – العليم، الخبير، الحكيم – قضى أن يكون أول ما ينزل من هذا الكتاب الأقوم قيلا، وأن يكون أول ما يأمر به من هذا الدين الأهدى سبيلا، والأكمل منهاجا ودليلا هو العلم… لأنه “هو وحده الإمام المتّبع في الحياة، في الأقوال، والأفعال، والاعتقادات (1)، وهو خصوصية – إنسانية.

لقد فهم إبن عباس – رضي الله عنهما – أن الوعيد الذي أوعده سيدنا سليمان – عليه السلام – الهدهد من العذاب الشديد هو نتف ريشه ليعطل فيه خاصية الطيران، فيتحول من حياة الطير إلى حياة دواب الأرض، وذلك نوع من المسخ.. والمسخ أشنع عقوبة في الدنيا، والإنسان خاصيته التفكير في أفق العلم الواسع الرحيب، فمن حرم إنسانا – فردا أو جماعة – من العلم فقد حرمه من خصوصيته – الإنسانية، وحوّله إلى عيشة العجماوات (2)، فلا إنسان كامل في إنسانيته إلا بالعلم، ولعل مما يدل على ذلك أن الله – عز وجل – علّم آدم الأسماء كلها وهو في الجنة، حيث لم يكن محتاجا إلى العلم وسيلة لإنجاز وصناعة ما يحتاج إليه، لأن الجنة ليست دار عمل… ومما يذكر في هذا الأمر أن الإمام محمد بن أحمدالشريف التلمساني عندما كان صبيا سأل العالم أبا زيد ابن الإمام قائلا: ياسيدي هل يقرأ العلم في الجنة؟ فقال له الشيخ: نعم، “فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ العين”، فقال الصبي، الذي هو أكثر حكمة ممّن “شابو وما تابوا”: “لو قلت لي: لا علم فيها لقلت لك لا لذّة فيها (3)“.

لقد أقبل المسلمون – عندما كانوا مسلمين – على العلم إقبال الظمآن على الماء الزلال، وضربوا إليه أكباد الإبل، وساحوا في الأرض، يبتغون علوم الأمم السابقة، وابتكروا فيه ما لم يسبقهم إليه سابق، ولم يلحق بهم فيه لاحق.. فأقاموا المدارس، وأسسوا الجامعات.. وأنفقوا في سبيله كل غال، ووقفوا عليه كل نفيس، ولم تبلغ أمة في العناية بالعلم وتقديره، وإعلاء مكانة أهله مبلغهم، فاستحقوا – عن جدارة – أن ينسبوا إليه، وأن يوصفوا به، فقيل فيهم “أمة العلم”.

ثم أتى من بعد أولئك الأسلاف أخلاف أضاعوا العلم، وحالفوا الجهل، واستحوذت عليهم السّفاهة فبذروا الأموال في التافه من الأعمال، وخضعوا للأرذال، فردّوا أسفل سافلين، وتداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة على القصاع…

إن العرب – وهم قلب هذه الأمة الإسلامية، التي كانت خير أمة أخرجت للناس، وفي أرضهم أنزل الأمر بالقراءة – هؤلاء العرب هم الآن أجهل الأمم، وأكثرها هجرانا له، وأشدها عداوة لأهله، واحتقارا للكتاب.. ومن أجل ذلك فهم في الدرك الأسفل..

وإذا رأيتهم حسبتهم أحياء وهم أموات لأنّ:

الجهل لا تحيا عليه جماعة كيف الحياة على يدي عزريلا

لقد أحسست بدوار رهيب وأنا أقرأ في تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) “أن متوسط قراءة الفرد في المنطقة العربية بلغ ستّ (6) دقائق في السنة، مقابل اثنتي عشرة ألف دقيقة في السنة للغرب، أي ما يقارب من أحد عشر كتابا للأمريكي، وسبعة كتب للبريطاني(4)“.

كما ذكر تقرير التنمية الثقافية العربي الثالث، الصادر عن مؤسسة الفكر العربي في ديسمبر 2010 “أن العرب – في عام 2009 – قاموا بتحميل نحو 43 مليون فيلم وأغنية، بينما قاموا بتحميل ربع مليون كتاب فقط.. احتلت كتب الطبخ مركز الصدارة بنسبة 23٪ (5)…” وأضاف تقرير التنمية الثقافية العربي نفسه “أن عمليات البحث التي قام بها العرب عام 2009 على شبكة الانترنيت عن المطرب تامر حسني ضعف عمليات البحث التي قاموا بها عن نزار قباني، والمتنبي، ونجيب محفوظ، ومحمود درويش مجتمعين(6)“.

إن من أسباب عدم إقبال الناس في عالمنا العربي على القراءة هو اقتداؤهم بما يسمى – تجاوزا – “النخبة السياسية” من حكام، ورؤساء أحزاب، التي هي في الغالب أجهل “نخبة” سياسية، وقد رأينا منها نماذج في “انتخاباتنا” التشريعية الأخيرة، ذكّرتنا ببيت الشاعر أحمد شوقي القائل:

ناشدتكم تلك الدماء زكية لا تبعثوا للبرلمان جهولا

فكيف تكون حال البرلمان إذا كان من أعضائه من يعتقد أن “الفاكس” بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وأنه يمكن استيراد الميكانيزمات…

لقد كادت عيناي تبيضّان من الحزن، وضاق صدري ولم ينطلق لساني عندما قرأت أن الرئيس الأمريكي تلقى خلال سنة 2009 من محمد السادس تسعة كتب عن تاريخ وثقافة المغرب، وتلقى في السنة نفسها من عبد العزيز بوتفليقة أربعة صناديق من التمر، واثنتي عشرة قارورة من النبيذ الأحمر (7). وليعلم حكامنا في العالم العربي الذين لا يحسن أكثرهم قراءة ما يكتب لهم أن “طول رفوف الكتب في مكتبة الكونغرس يبلغ 526 كلم (8)“..

إن الإمام محمد البشير الإبراهيمي يعتز بالعرب – عندما كانوا عربا – حدّ الغلو، ولكنهم عندما لم يبق لهم من العروبة إلا الاسم هجاهم هجاء لم يهجهم به أحد، فقال: “وضع الأجداد العِقال للرجل فنقلته الأحفاد إلى الرأس، وعدلوا به من الأباعر إلى الناس، وما بين النقل والنقل ضاع العقل (9)“، وكيف لا يضيع العقل مع هذا الجهل؟

و”يا أمة ضحكت من جهلها الأمم”.

هوامش:

12) آثار الإمام بن باديس. ج1 ص 139 و ص347.

3) ابن مريم: البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان. ص 167.

456) ملحق مجلة العربي.ع 642. ماي 2012. ص5.

7-) جريدة الخبر في 23 / 1 / 2011. ص23

😎 جريدة الخبر في 18 / 7 / 2011. ص 23.

9-) آثار الإمام الإبراهيمي.. ج3 (عيون البصائر) ص 526.

مقالات ذات صلة